رغم قلة أعدادهم مقارنة بالأعداد الهائلة التي ضاقت بها ساحات عواصم الربيع العربي في تونس ومصر، ورغم أنّ انتفاضتهم السابقة عوملت نسبيًا كما تعامل نظاما الأسد والقذافي مع انتفاضة الشعبين السوري والليبي، فإن العراق والعراقيين اليوم على أعتاب مرحلة سياسية جديدة وحساسة، يعيدون فيها إنتاج دولتهم ونظامهم السياسي، ولكن بشروطهم وخصائصهم الوطنية.
إلّا أنّ المفارقة في الحالة العراقية أنّ هذه الحركة المطلبية التي انطلقت منذ شهر، يمكن لها أن توقف حالة عدم الاستقرار السياسي المستمرة في العراق منذ أكثر من عشرة أعوام. وهذه الحالة باتت أساسًا تهدد وحدته الوطنية، وذلك بسبب فساد الطبقة السياسية وممارستها سياسة الإقصاء المذهبي والإثني، التي من تداعياتها أنها مكنت تنظيما مثل «داعش» من السيطرة على ثلث مساحة العراق. ويمكن لهذه الانتفاضة العراقية أن تنقل البلد إلى مرحلة جديدة عنوانها الإصلاح السياسي والقضاء على الفساد ومحاربة الإرهاب، وإعادة الاعتبار لسلطات الدولة الشرعية والقضائية وإعادة بناء المؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية بعيدًا عن المحاصصة الطائفية، وانعكاسات خارجية ستؤثر حتمًا على علاقات العراق بجواره العربي والإقليمي.
تقف الطبقة السياسية العراقية، وخصوصًا الشيعية فيها، عاجزةً عن احتواء الاحتجاجات أو الالتفاف على المطالب الشعبية. والمفارقة أن هذه الأحزاب سارعت إلى تأييد مطالب الشارع بمحاسبة الشخصيات الحزبية المتورطة في الفساد والمتهمة بسوء استخدام السلطة. كما أن هذه الأحزاب نفسها اضطرت إلى الإعلان مرغمة على موافقتها على كل الخطوات الإصلاحية التي أطلقها رئيس الوزراء حيدر العبادي. قبلت القوى السياسية بهذه المطالب على مضض نتيجة الواقع الجديد الذي فرضته ثنائية الشعب والمرجعية.
لم يعد يسيرا على هذه القوى السياسية، كما حصل في السابق، اتهام المحتجين بأنهم وقعوا ضحية جهات خارجية تستغل مطالبهم من أجل تقويض المكاسب الشيعية في السلطة والنيل من العملية السياسية. كما أنّ الاحتجاجات هذه المرة وصلت إلى أغلب محافظات الوسط والجنوب حيث الأغلبية الشيعية التي تخضع، منذ أكثر من عشر سنوات، لسلطة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي الفاسدة، والتي حمّلتها مرجعية النجف جزءًا كبيرًا مما آلت إليه الأمور في السنوات الأخيرة. فاتّهمتها وباقي شركائها في العملية السياسية بأنهم لم يراعوا المصالح العامة للشعب العراقي، بل اهتمّوا بمصالحهم الشخصية والفئوية والطائفية والعرقية.
في الوقت نفسه الطبقة السياسية الكردية متمسكة بنظام المحاصصة وتدافع عنه لما يؤمّنه لها من مكاسب سياسية واقتصادية. أما القيادات السنية فمنشغلة بتحرير مناطقها من قبضة تنظيم داعش الإرهابي لتمكين شارعها ومكوناتها المدنية من إعادة بناء الثقة مع المكونات العراقية الأخرى، بعد مرحلة طويلة من العزل والإقصاء اللذين مارستهما الحكومات السابقة. ونتيجة هذا الواقع يبقى العاتق الأكبر في تحقيق الإصلاحات وتحرير القرار السيادي العراقي من قبضة الإملاءات الخارجية وإعادة بناء الشخصية العراقية يقع على كاهل مكونات الاجتماع الشيعي الأهلي والمدني، ومن يرتضي من أحزابه السياسية أن يسير مع هذه الخطوات دون مواربة أو انتقائية أو بدافع تصفية حسابات مع أطراف شيعية أخرى. وتقع على هذا المكوّن هذه المسؤولية التاريخية، نظرًا لموقعه كأغلبية وطنية خسرت موقعها الطبيعي في قيادة الدولة والمجتمع عندما حولتها المصالح الفئوية والتبعية للخارج إلى أغلبية مذهبية قمعت التنوع داخلها ورفضت الاعتراف بالتعدد والشراكة في إدارة البلاد.