رغم أن الشيخ أحمد الأسير لم يكن في مخيم «عين الحلوة» في الأيام التي سبقت توقيفه ولم ينطلق منه في رحلته الأخيرة، إلا أن طيفه لا يزال حاضراً بقوة في المخيم. اسم الرجل يكاد يتردد على كل شفة ولسان. كيف جرى الإيقاع به؟ من باعه ومن أبلغ عنه؟ ما مصيره؟ أين شقيقه أمجد وأبناؤه الثلاثة و«صديقه الصدوق» يوسف حنينة؟ هل سيُسلِّم فضل شمندور المشهور بـ«فضل شاكر» نفسه؟

وما الترتيب المتّفق عليه وكيف ستكون التسوية المحتملة؟ جملة تساؤلات تملأ أيام أهل المخيم وتشغلهم، هم الذين يعيشون ترقّباً حذراً بعد سلسلة أحداث أمنية شهدها ملجأهم الذي يضيق عليهم يوماً بعد آخر. في موازاة هذه الأسئلة التي تزدحم في رؤوسهم، تُجري الجهات التي احتضنت الشيخ الأسير تحقيقاً داخلياً بحثاً عن الخرق الأمني الذي أودى بالأسير وأدى إلى توقيفه. وبحسب مصادر إسلامية مطّلعة، فإن «الدائرة ضيقة وبنتيجة التحقيق سيُكشف العميل». تنطلق المصادر من مُسلَّمة أن «الصورة سُرِّبت»، فشكّلت الخرق الذي فضح أمر الشيخ الأسير. لا تأخذ المصادر أبداً بالرواية الأمنية القائلة بأنّ جهاز الأمن العام ركّب عشرين صورة افتراضية لهيئة الأسير المحتملة وانتظر قدومه. ولا تصدّق فرضية رصدها إلكترونياً أو هاتفياً، لأنه كان حريصاً في هذا الخصوص. ومن هنا تبدأ القصة في تقديرهم. فمن سرَّب الصورة؟
لدى القيّمين على «التحقيق» بشأن «عميل» الأمن العام، ثلاثة أشخاص في دائرة الشبهة: «الرجل الذي صوّر الأسير والمزوِّر ح. ح. والوسيط الذي أوصل الأوراق للمزوِّر ثم أحضر جواز السفر وبطاقة اللاجئ باسم خالد عباسي». لا تبرئ المصادر أحداً من هؤلاء، لكنها ترفض الانتقام من دون دليل قاطع. بالنسبة إلى ح. ح، القيادي السابق في الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة والمطلوب للدولة اللبنانية، تؤكد المصادر أنّه لم يكن يعرف أصلاً أن صاحب الصورة هو أحمد الأسير. فضلاً عن أنّه سبق أن زوّر مستندات لمطلوبين مهمّين غادروا بالطريقة نفسها عبر المطار. لكن ربما للأسير خصوصية أخرى، ودائماً بحسب المصادر نفسها. كذلك الأمر بالنسبة إلى الوسيط الذي نقل الصور ثمّ أتى بالمستندات. لم يكن على دراية بأنه يزوّر مستندات للأسير، لكنه كان يعلم أنّه شخص بالغ الأهمية. وتبعاً للمصادر نفسها، وحده المصوِّر من كان يعلم هوية الأسير، لكنه ثقةٌ بالنسبة إليهم.
وبالتالي، فإن كلمة السرّ ضائعة بين الثلاثة، يُضاف إليهم احتمال رابع مفاده أن يكون أحد هؤلاء الثلاثة قد سرّب الصورة لأحد الفصائل الفلسطينية التي نقلتها بدورها إلى الأمن العام. بكلمات أخرى، لا جواب شافياً حول هوية العميل بدليل قاطع بانتظار انتهاء التحقيق في المسألة.
يُضاف إلى ما سبق، جملة تساؤلات عن حركة الأسير وإقامته خلال الفترة السابقة بين ظهراني أهل المخيم. إذ كيف دخل وكيف خرج وكيف كان يتحرّك بين أروقته ويعقد لقاءاته، ولا سيما أنه دخل وخرج مراراً؟ تكشف المصادر أن الأسير فور دخوله إلى مخيم عين الحلوة مكث في ضيافة شاب فلسطيني يُكنّى بـ«أبي عائشة»، احتضنه في حي حطين. تروي المصادر أن الشاب الثلاثيني الذي آوى الأسير بصورة متقطعة طوال سنة في ضيافته في المخيم كان من جماعة الأسير قبل أحداث عبرا. ولمّا حصل ما حصل، لجأ الشيخ إليه. ثم انتقل إلى منزل آخر. وتكشف أيضاً أن الأسير مكث لديه في الفترة الأخيرة قبل خروجه من المخيم أيضاً. أما كيفية دخوله وخروجه، فتذكر أنها غالباً كانت تتم سيراً على الأقدام من أحد حواجز الجيش الأقل تدقيقاً في هويات المارة. كما تذكر المصادر أن الحلقة الضيقة المحيطة بالأسير (شقيقه أمجد وأبناؤه الثلاثة عبد الرحمن وعمر ومحمد والشيخ يوسف حنينة) لا تزال في ضيافة «أبو عائشة». فيما موظف المالية السابق معتصم قدورة، «دينمو» الأسير وساعده الأيمن، بحسب المصادر الأمنية، موجود في حماية أحد عناصر تنظيم «جند الشام» سابقاً هيثم الشعبي. أما عن تحركات الأسير داخل المخيم، فتؤكد المصادر أنّها كانت شبه معدومة، وإن حصلت، فإن ذلك يكون مع توخّي السرية المطلقة.


أقام المولوي مأدبة غداء في منزله في عين الحلوة من دون أن يُعرف إن كان الأسير قد حضرها

 

لذلك لم يكن يشعر به أحد، على عكس رفيق دربه في السنوات الأخيرة فضل شاكر. وتنقل المصادر التي كانت على تماس مع الأسير أن «الوحيد الذي كان يتنقل في المخيم من مجموعته هو الشيخ يوسف حنينة»، مشيرة إلى أن «الأسير كان أمنياً بامتياز وحريصاً على أن لا يشعر به أحد. لذا كان يتنقل في الخفاء». حاله من حال المطلوب شادي المولوي الذي أقام مأدبة غداء منذ نحو شهرين في منزله في المخيم، ودعا إليها المقربين منه من دون أن يُعرف إن كان قد حضرها الأسير، بحسب أحد التقارير الأمنية.

من رياض الصلح إلى الريحانية

في الخامس من آذار ٢٠١٢، «زحف» الشيخ أحمد الأسير قائداً مئات المتظاهرين إلى ساحة الرياض الصلح تحت عنوان «نصرة لحمص». حمل يومها الأسير مع مناصريه وروداً بيضاء قدّموها لرجال الأمن «إكراماً للأمنيين ورسالة سلام وشكر». افتتح الفنان التائب فضل شاكر الاحتفال مُنشداً «سنبقى هنا» فأبكى الحاضرين تأثّراً. بعد أكثر من عام، انطلقت أحداث عبرا فاستحالت الورود رصاص رشّاشات وتفرّق الجمع. لم يبق أحد هنا. أخلى أنصار الأسير الساحة طافرين بين بيوت الأمان وسوريا ومخيمات اللجوء. قضوا بمعظمهم بين مطارَدٍ وسجين وقتيل. تساقطوا واحداً تلو الآخر. مرّ عامٌ آخر، فوقع الأسير نفسه أسيراً. من يعرف إمام مسجد بلال بن رباح من الإسلاميين، يعلم جيداً أن الشيخ لا يملك علماً شرعياً. لا بل حتى أن خطابه في بداياته، من شعار «السلمية» وغيرها، لم يكن ينسجم مع طروحات الإسلام الجهادي. حتى إن سقطاته المتتالية من أبسطها إلى أعظمها لم تعبّر إلا عن جملة تناقضات. من خطابه الجنوني يوم حمل لعبة تخيّل واهماً أنّها تكرر عبارة «اضرب السيدة عائشة»، زاعماً أنها تباع في الضاحية الجنوبية ثم اعتذاره، مروراً برفضه اعتبار قتلى «فتح الإسلام» في معارك نهر البارد شهداء خلال مقابلة تلفزيونية ثم تراجعه عن تصريحه، وانتهاءً باشتباكه مع الجيش اللبناني. مناداته بالسلمية ثم حمله السلاح. كل ذلك لم يُعبِّر عن قائد واعٍ أو حتى شخصية متزنة. عاب الأسير على الرئيس سعد الحريري أنه هرب مخاطباً إياه «القائد لا يهرب ويترك شعبه»، لكن متى سنحت له هو الفرصة حاول الهرب أيضاً. لم يبنِ الرجل، بل دمّر. هو «غبي»، بحسب أحد أبرز قيادات كتائب عبدالله عزام. لم يقضِ على نفسه فحسب، بل قضى على العشرات الذين آمنوا بمشروعه والتحقوا به. لم يكن أحمد الأسير شيئاً. لم يُمثّل حالة في البدء، بل كان فقاعة إعلامية فقط. سمّن نفسه بنفسه مزهواً بإحساس واهم بفائض القوة. ولم يكن ليصبح حالة، لولا أنّه عبّر عن غضبٍ يعتمل في نفوس البعض. رأى هؤلاء فيه لسان حالهم. اعتبروه «مفجّر غضب السنّة» أو «القائد» الغائب الذي يفتقدون. غير أن الشيخ الموقوف لم يتحوّل إلى حالة حقيقية إلا بعد أحداث عبرا. الأسير بعد أحداث عبراً أشدّ خطراً منه قبلها. إذ إن عدد جمهوره تضاعف، لدى من يؤيده أو حتى ممن لم يكونوا يثقون به أصلاً، لكن موقفهم منه تبدّل بعد أحداث عبرا باعتبار أنه جسّد «مظلوميتهم». اللازمة التي بنى الأسير نفسه كل خطابه عليها. هكذا تحوّل الرجل رمزاً. نجح بتجنيد انتحاريين، فكان تلميذه معين أبو ظهر أوّل لبناني يُفجِّر نفسه بلبنانيين.