لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الرابع والخمسين بعد الأربعمئة على التوالي.
تتحرك معظم دول المنطقة، وبينها لبنان، على إيقاع التفاهم النووي. هؤلاء ينتظرون «شرعنة» الاتفاق في دوائر القرار الأميركية والايرانية، قبل أن تبدأ المرحلة الأخيرة منه، أي وضعه موضع التنفيذ.
هذا المسار لا يخفي استمرار رهان بعض الأوساط الخليجية، وخصوصا السعودية، على وجود فرصة ما لسقوط الاتفاق بالضربة القاضية الأميركية، لكن من يدقق في ما يطرح من أوراق، وما يجري من مفاوضات في العديد من ساحات المنطقة، يشعر أن المنطقة توضع على سكة المسار التنفيذي للتفاهم الكبير، خصوصا أن الوقت الفاصل بين انطلاق القطار النووي وبدء العــد العكسي للــسباق الرئاسي الأميركي، هو وقت قصير (لا يتعدى الخمسة أشهر)، وبالتالي، لا بد من جهوزية الجميع لما قد يطرح من تسويات تدريجية على طاولة اللاعبين الكبار.
«ليس مطلوباً من الأطراف المؤثرة داخلياً، في مرحلة انعدام الوزن لبنانياً، تقديم تنازلات ولا إطلاق مبادرات، كل ما هو مطلوب منها في هذا الوقت الإقليمي الضائع الحفاظ على «ستاتيكو» الاستقرار». ينطلق مسؤول لبناني سابق من هذا الاستنتاج للجزم بأن لا تمام سلام مطلق اليدين في الدعوة الى جلسة مجلس وزراء جديدة، ولا ميشال عون قادر على الاندفاع في خياراته الى مرحلة اللاعودة. أما الهوامش، فإنها كثيرة، ويمكن لهذا أو ذاك، كما لغيرهما، أن يخوضا تفصيليا في هذا الملف أو ذاك، لكن من دون ملامسة الخطوط الحمر، أي ما دون الانفجار الداخلي الذي قد يؤذي الجميع، وخصوصا «حزب الله».
واللافت للانتباه أنه برغم الاهتزازات الجزئية الأخيرة، فإن خيار كل من «حزب الله» و«تيار المستقبل» هو المضي بالحوار الثنائي برعاية الرئيس نبيه بري، وستكون جلسة الاثنين المقبل بينهما في عين التينة، مناسبة لوضع ضوابط في كيفية التعامل مع أكثر من ملف سياسي وخدماتي وأمني، وليس خافياً على أحد أنه في مناخ التعطيل والفراغ، تحول هذا الحوار الى «فسحة أمل» تتسع أو تضيق تبعاً للحظة السياسية.
حسابات الأطراف الداخلية
وليس مستبعداً أن يطل «المستقبل» من نافذة الإنجاز الأمني الأخير المتمثل بإلقاء القبض على الشيخ أحمد الأسير، لإعادة مطالبة «حزب الله» وبري بأن يحاولا إعطاء شيء لجمهور لبناني عريض، وذلك يكون، ليس بالاكتفاء برفع الغطاء السياسي عن عصابات الخطف والسرقة والمخدرات والتزوير والقتل في بعض المناطق، بل أيضا تقديم معلومات دقيقة ومساعدة لوجستية اذا استلزم الأمر من أجل القول إن الخطة الأمنية في عدد من المناطق، وخصوصا البقاع، «نجحت فعلا لا قولا».
هذا وغيره يندرج في خانة سعي كل طرف الى الحفاظ على أوراقه وتعزيزها اذا أمكن من دون تقديم «تنازلات استراتيجية» ما دامت القضايا الكبرى، وخصوصا رئاسة الجمهورية، مؤجلة حتى إشعار آخر.
ولـ «حزب الله» أن يستمر بتركيز جهده في الساحة السورية، كما عند الحدود الجنوبية، ولـ «تيار المستقبل» أن يحافظ على حكومة تمام سلام، من دون استفزاز ميشال عون وحلفائه، وأن يسعى في الوقت نفسه، الى حل معضلته المالية التي باتت تشكل خطرا، ليس على مؤسساته وحسب، بل «وعلى دوره السياسي»، حتى أن قياديا كبيرا في «المستقبل» يقول ان كل الزيارات المكوكية الأخيرة بين السعودية وبيروت وباريس تمحورت حول هذه النقطة وليس حول أي عنوان سياسي.
وثمة قناعة متزايدة بأنه ما لم يحسم الوضع قريبا بصورة إيجابية «فنحن ذاهبون نحو انهيار سياسي كبير قبل نهاية العام الحالي» على حد تعبير القيادي البارز، ولاقاه موظف سابق في الدائرة الحريرية بقوله انه ليس مستبعدا أن يقدم سعد الحريري على إعلان إفلاس «سعودي أوجيه» اذا استمر الحصار السعودي لها، والذي بلغ ذروته مع القرار الذي أصدرته وزارة العمل السعودية في شهر تموز الماضي بوقف الخدمات المتعلقة بالشركة، ومنها تعليق منح تأشيرات العمل لموظفيها ومنعها من استقدام موظفين جدد، ووقف تجديد تأشيرات الموظفين لديها، بمن فيهم كبار المسؤولين الذين هم من الجنسية اللبنانية، وكل ذلك على خلفية «عدم التزامها بصرف رواتب عمالها في التواقيت المحددة»، وفق الناطق باسم وزارة العمل السعودية تيسير المفرج.
أما ميشال عون، فقد انتهى من ترتيب بيته الداخلي، بتثبيت جبران باسيل رئيسا لـ «التيار»، وسيسعى من الآن وحتى تشرين الاول الى تمديد خدمة العميد شامل روكز في إطار «وصفة قانونية» أشمل، وهو انتزع من السيد حسن نصرالله ما يريده رئاسيا وحكوميا.. والأهم الالتزام بأن أية اندفاعة سياسية ـ حكومية يمكن أن يغطيها سواء الرئيس نبيه بري أو النائب وليد جنبلاط «ستأخذ البلد الى مشكل سياسي حتمي»، وهي العبارة السحرية التي جعلت «الجنرال» يسترخي سياسيا في الآونة الأخيرة.
و«يسجل» لرئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع أنه تمكن من إلزام ميشال عون بإعلان نيات محكم البنود، وخصوصا ما يتصل بعدم فتح أبواب المجلس النيابي إلا وفق جدول أعمال يتضمن بند القانون الانتخابي، وهذه النقطة هي جوهر الخلاف بين الرابية وعين التينة، وليس قانون استعادة الجنسية، كما أن هجومه الإيجابي المضاد باتجاه «التيار» رفع أسهمه في الشارع المسيحي، وهو الأمر الذي أظهرته أرقام استطلاعات رأي جرت مؤخرا، وبيّنت صعودا لشعبية «القوات» في المدارس والجامعات، على عكس العونيين الذين لم تصل بطاقات الطلاب الجامعيين لديهم الى ما يزيد عن 700 بطاقة من أصل نحو 17 ألفا!
واذا كانت حماسة النائب وليد جنبلاط قد جعلته يذهب الى باريس لمطالبة سعد الحريري باستمرار «الاستثمار» على خط العلاقة مع الرئيس نبيه بري، فإن الأخير صار متيقنا من أن المشهد اللبناني غير قابل للتعديل، وأن فرصة «اللبننة» رئاسيا انتهت «وعلينا أن نعول على العناصر الخارجية لإنتاج تسوية قد لا تشمل الرئاسة وحدها».
رهانات بري
ما هي العناصر الخارجية التي يعوّل عليها بري؟
فضلا عن المناخات الإيجابية التي أرساها التفاهم النووي، يتطلع رئيس مجلس النواب، ومن يمكن تسميتهم بـ «أهل العقل» في «تيار المستقبل»، الى اجتماعات النصف الثاني من أيلول المقبل بين ايران والدول الخليجية على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
هذه الاجتماعات صارت مواعيدها ثابتة، ولم يحسم السعوديون أمر مشاركتهم فيها. وهم يفضلون حتى الآن، أن تقتصر على قطر وسلطنة عُمان أولا (وربما الكويت)، خصوصا أنها انطلقت بمبادرة من الدوحة (وزير الخارجية خالد العطية بعد اجتماعه الأخير بنظيره الإيراني محمد جواد ظريف).
ماذا يمكن أن يتضمن جدول الأعمال؟
يقول مسؤول لبناني يتواصل مع دوائر القرار الخليجية إن السعودية وضعت شروطا للحوار مع ايران (في طليعتها التزام طهران بعدم التدخل في شؤون البيت العربي، بما في ذلك سوريا والعراق واليمن ولبنان!)، على أن تكون الخطوة الثانية تحديد ما يسميها السعوديون «قضايا الحوار العربي ـ الإيراني» (وليس السعودي ـ الإيراني)، ويأتي اليمن في طليعتها، باعتباره «يشكل جزءاً من الأمن القومي لبلدان مجلس التعاون الخليجي مجتمعة».
ويشير المسؤول اللبناني الى أنه سمع نبرة سعودية عالية السقف في الموضوع اليمني مفادها الآتي: لن ندخل في أية تسوية سياسية مع الحوثيين وعلي عبدالله صالح. كل ما هو مطلوب منهم الالتزام بمندرجات القرار الدولي الرقم 2216، أي إعلان الاستسلام وفق تفسيرهم وليس تفسيرنا، وبعد ذلك تتخذ خطوات عملية باكورتها وقف النار وعودة الشرعية (الرئيس عبد ربه منصور هادي)، ومن ثم تشكيل حكومة سياسية تشرف على إعادة إعمار اليمن.
وبطبيعة الحال، سيشمل الحوار ملفات العراق وسوريا.. وأخيراً لبنان، على حد تعبير المسؤول اللبناني، الذي يتوقع ازدحام المبادرات الإقليمية في المرحلة المقبلة، لكنه يصر على القول إن مرحلة ما بعد إبرام التفاهم النووي ووضعه موضع التنفيذ ستكون مختلفة، إذ إننا سنشهد تهافت اللاعبين الدوليين والإقليميين لحجز أماكنهم على طاولة التسويات الكبرى في الاقليم.