لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الثالث والخمسين بعد الأربعمئة على التوالي.
عندما تكون الرئاسة منسية، والحكومة معطلة بالأمر، وهيئة التشريع معطلة بلا عذر، والسياسة غائبة، يصبح كل شيء مباحاً، وربما مبرراً. لكن هذه القاعدة لم تعد تطال السلطة بأوجهها كافة فحسب، بل وصلت إلى الأحزاب والتيارات التي ظلت لسنوات عصية على لوثة التوريث، وإن ضربتها البطالة غالبا.
أمس، أكمل «التيار الوطني الحر» طلب انتسابه إلى نادي الأحزاب التقليدية. صار واحداً منها، قلباً وقالباً، بعدما فشل في تقديم تجربة ديموقراطية تليق به وبتاريخه الذي بني على أسس شبابية نضالية لا تشبه الأسس التي بنيت عليها الأحزاب الباقية.
عندما عاد ميشـال عون من المنفى لم يَعِد سوى بالتغيـير. لكـن مـع مرور السنين ظل الشعـار شعـاراً وإسماً لثـاني أكبر كتلة في المجلـس النـيابي، بعدما اصطدم بواقع مهتـرئ ومصالح مستبدة، جعلت منه خصماً لكل السلطة السياسية التي هلعت من «التسونامي» المقبل من عالم الغيب.
لم يستسلم عون لكنه هادن، فلم يتبقَّ له سوى أن يثبت أن قراءته للتغيير تنبع أولاً وأخيراً من إيمانه بالديموقراطية داخل تياره.. لكنه لم يفعل، ولم يستطع ان يفي بوعده «تأمين حقوق الشباب السياسية من خلال تأمين عملية الاقتراع مثل بقية الدول الديموقراطية».
ميشال عون ليس وليد جنبلاط، الذي يسعى لتسليم إبنه الزعامة والحزب، وليس أمين الجميل الذي أهدى حزب أبيه لإبنه. عون ليس إبن عائلة سياسية أو إقطاعية.. هو بالنسبة «لأبنائه» رمز وقائد وعصب للتغيير المرجو. و«التيار الوطني الحر» ليس ملك مؤسسه، كما تيار «المستقبل» أو «حركة أمل»، لكنه مع ذلك لم يستطع الصمود أمام مثالهم. ربما لأن الزمن ليس زمن الديموقراطية، وربما لأن «التيار» يحارب على جبهات عدة ولا يحتاج إلى فتح جبهة جديدة قد لا يخرج منها سليماً. ربما للجنرال مبرراته الموضوعية للقيام بما قام به، لكن أمام المحازبين كتلة من الإحباط التي تتطلب الكثير من العمل لإزاحتها.
لم تكن الانتخابات في «التيار» شأناً داخلياً ولن تكون. من انتظر انتخابات «التيار» من خارجه انتظرها لأنها كانت «الفرصة الجدية الوحيدة لهز الأحزاب الأخرى وتحريك الكتلة المعترضة فيها» حسبما كان يرى عونيون كثر. من انتظرها كان يأمل أن تشكل فرصة لخلق ديناميكية جديدة تواجه الضمور في الحياة السياسية.. وربما تؤسس لحياة جديدة. لكن كل شيء توقف فجأة لأن الرمز قرر أن ينزل عن العرش الذي وضعه فيه مناصروه، معلناً أنه خصم في «التيار» وليس حكماً.. كما أملوا.
ميشال عون قال في خطاب تسليم الحزب لصهره جبران باسيل إن «الكل رابحون»، لكن «الكل» لا يقولون ذلك. البعض وجد نفسه مهزوماً، ليس لأن نتيجة الانتخابات هزمته، بل لأنه وجد نفسه في مواجهة لا يريدها مع العماد عون نفسه. من دخل في المنافسة، إن كان اسمه ألان عون أو غيره لم يدخلها في وجه الجنرال، بل في وجه مرشح آخر يفترض أنه يوازيه في الفرص والحقوق، لكن ميشال عون كان له رأي آخر. نزل بثقله دعماً لجبران باسيل، مذكراً أنه ضمانة للكل وموصياً أن يصير الكل ضمانة لبعضهم البعض. والضمانة للكل تعني بما تعنيه ضمانة لمنافسة ديموقراطية، فهل كان الجنرال كذلك؟ قال ميشال عون في اللقاء الموسع الذي عقده أمس بحضور باسيل وعون ونواب «التيار» ومنسقيه إن «لا رابح ولا خاسر جراء التفاهم، بل الكل رابحون لأنه جاء نتيجة رغبة الأكثرية الساحقة»، لكن ألان عون أوحى بالعكس في بيانه، فدعا إلى تجاوز المرحلة «نزولاً عند رغبة الجنرال وثقتي المستمرة بشخصه».
بين قياديي «التيار» من يعلن جهاراً اليوم أن تيارهم فشل في تقديم النموذج، وبرهن أن تجربته لم تنضج بعد، فأذى صورته بعدما كان يفترض أن تحييها الانتخابات. والأهم أنه خسر صدقية شعاراته ومبادئه وبعض رصيده أو يكاد.
المفارقة أن لسان حال المرحبين بالإنجاز لم يكن أكثر تفاؤلاً من الراضين به على مضض. هؤلاء اعتبروا أن ما حصل هو أفضل الممكن، بعدما كان «التيار» مهدداً بالصدامات، وربما الانشقاقات، خاصة أن الانتخابات تجري من القاعدة.
أربع سنوات هي ولاية رئيس الحزب. وبين من يقول إن «التيار» انتهى بعد فشله في تقديم النموذج وبرهن أن تجربته لم تنضج، ومن يقول إن تجنب المعركة يعطيه فرصة لتجديد نفسه، من خلال انتخابات القطاعات والمجلس السياسي واللجان المركزية: وحدها التجربة ستكون الحكم.