لم يكن خافيا على أحد أن ظاهرة أحمد الأسير نبتت في لحظة سياسية لبنانية تعبيرا عن واقع مأزوم في شارع لبناني معين، لكن سرعان ما دخلت عليها عناصر داخلية وخارجية، فازداد الواقع تأزما، وصارت هذه الظاهرة تشكل عنوانا صارخا للفتنة المذهبية.
صحيح أن أحمد الأسير أساء الى مراجع سياسية ودينية لبنانية كثيرة وجعل حياة مئات آلاف الجنوبيين على مدى أشهر مشروع مخاطرة، وهم في طريقهم من صيدا عاصمتهم وممرهم الالزامي الى مدنهم وقراهم ودساكرهم الجنوبية.
ولكن الصحيح أكثر أن الأسير أساء الى مدينة صيدا وأهلها، والى التعايش التاريخي فيها، سواء بين المسلمين أنفسهم أو بينهم وبين جيرانهم المسيحيين، مثلما أساء الى الاسلام نفسه، عندما حول «مسجد بلال بن رباح» الى منبر للتحريض الطائفي والمذهبي.
وأساء الأسير أيضا الى تجار صيدا ومؤسساتها ورجال الأعمال فيها الذين يعرفون أن شرايين مدينتهم التجارية والصناعية والسياحية مرتبطة بشرايين الجنوب، وأية محاولة للقطع أو الفصل بينهما، ترتد سلبا على الكل.
والأخطر أن الأسير، قبل معركة عبرا وبعدها، أساء الى القضية الفلسطينية من خلال التحافه عباءة بعض التنظيمات المتطرفة في عين الحلوة، فكان تشديد غير مسبوق للاجراءات الأمنية عند مداخل المخيم، لم يمنع أخطر مطلوب في السنتين الماضيتين من التنقل متخفيا بتسهيلات من هنا وهناك.
وأساء الأسير أيضا الى المؤسسة العسكرية وباقي المؤسسات الأمنية بخطابه أولا وبممارساته ثانيا، وأخطرها افتعال معركة عبرا وسقوط تلك الباقة من الشهداء والجرحى العسكريين، فضلا عما لحق بالمدنيين من خسائر في الأرواح والممتلكات.
لقد أساء أحمد الأسير الى الرئيس الشهيد رفيق الحريري في قبره والى زعامة الرئيس سعد الحريري وبهية الحريري وفؤاد السنيورة والى كل جمهور الاعتدال في لبنان، من خلال محاولة تزوير هوية صيدا وشوارعها وساحاتها التي لطالما احتضنت تظاهرات الصيادين والفقراء دفاعا عن الخبز ومن أجل فلسطين والجنوب.
لقد كان الرئيس الحريري أول من اتصل بالمدير العام للأمن العام مهنئا ومحرضا على ضرب كل الخلايا الارهابية بلا هوادة، لا بل كانت فرحته غامرة الى حد قوله بأن التغطية السياسية مؤمنة لكل مؤسسة عسكرية أو أمنية تضع نفسها على سكة الحرب ضد الارهاب.

ما هي مناسبة هذا الكلام؟
كان من الطبيعي أن يتحرك الجهاز الذي أوقف أحمد الأسير، بمعزل عن اسمه وهوية قيادته، في اتجاهات عدة:
¬ أمنيا، لكشف بعض الخلايا والمطلوبين وبعض مستودعات السلاح والذخائر.
¬ سياسيا، لكشف الجهات التي كانت تتولى تحريضه سواء أكانت محلية أم خارجية.
¬ ماليا، لمعرفة الجهات والشخصيات التي كانت تتولى تمويله قبل أحداث عبرا وبعدها.
¬ لوجستيا، لملاحقة كل الذين قاموا بإيوائه وتسهيل تنقلاته من لحظة اندلاع شرارة حوادث عبرا في حزيران 2013 وحتى لحظة توقيفه يوم السبت الماضي.
أدى التسريب الاعلامي السريع، كما صار معروفا، الى وقوع خلل كان خير مثال له تمكن عبد الرحمن الشامي من مغادرة منزله في جدرا قبل وصول الدورية الأمنية إليه، بسبب دوره في إيواء الأسير لمدة يومين قبل توجهه الى مطار بيروت.
وثمة نقطة لا بد من تسليط الضوء عليها من زاوية الحرص أولا وأخيرا: أن التنافس الأمني بين الأجهزة، فور اعلان نبأ إلقاء القبض على الأسير، بيّن وجود خلل ما، فاذا كانت هذه الأجهزة تملك «داتا» معينة، لماذا قررت اختيار هذا التوقيت للمداهمات والتوقيفات وليس قبل توقيف الأسير، خصوصا أن ما أفضى به من اعترافات كان ملك الأمن العام وحده والقضاة المتابعين؟
الأخطر من ذلك، أن بعض ممولي الأسير، وعلى طريقة «ما حك جلدك مثل ظفرك»، سارعوا الى الاتصال طوعا بمرجعيات حالية أو سابقة، طلبا للرأفة بهم، وراح أحدهم ينتقل من مرجع الى آخر سعيا الى عدم توقيفه في المطار أثناء عودته من رحلة خارجية أبرم خلالها عقودا تجارية لمؤسسته المعروفة!
كان جواب عدد من المرجعيات الرسمية أن كل من شارك في التحريض والتمويل والايواء هو كمن شارك في القتال وقتل العسكريين، وهذا أمر منصوص عليه في القانون، ومن لا يريد ذلك عليه أن يعدل القوانين أولا.
شكلت محاولة إلقاء القبض على (م. ع. ش.) الذي يعمل في دارة النائب بهية الحريري في مجدليون أول اختبار في كيفية التعامل مع هذه القضية المتدحرجة.
فلقد أفاد الأسير في اعترافاته أن هذا الشخص كان يتعامل معه دائما وأنه قام بإيوائه لمدة يومين بعد حوادث عبرا مباشرة، أي قبل انتقاله الى مخيم عين الحلوة.
استأذن المعنيون النائب بهية الحريري، وخصوصا أنها أبدت اهتماما فوق العادة بقضية أحمد الأسير منذ لحظة توقيفه، وكانت تتصل مرات عدة في النهار الواحد في اطار متابعة القضية كمعنية بالشأنين الصيداوي والوطني، وكانت كل المعطيات تصلها تباعا. كان الطلب الموجه اليها واضحا: م. ع. ش. متورط في عملية إيواء الأسير.
..واشتعلت الاتصالات في كل الاتجاهات، وكانت النتيجة أن موكبها تولى عند الساعة الثامنة من صباح أمس توصيل (م. ع. ش.) الى التحقيق لكن بضمانة عدم توقيفه وبالتالي الافراج عنه سريعا بموجب كفالة مالية شرط عدم مغادرة البلاد. هذا المخرج وفّره القضاءان العدلي والعسكري، وبالفعل، تطابقت اعترافات الأسير مع أقوال المستدعى، صباح أمس، لكن القرار السياسي ـ القضائي كان واضحا: ممنوع التوقيف وهذا الأمر يسري على كل من حرّض وموّل أو شارك في الايواء.. أما التفسير، فانه لم يكن مقنعا لا للقضاء نفسه ولا للمحققين!
هل ستسري هذه القاعدة على من موّلوا الأسير، وأسماء عشرة منهم، وهم من عائلات معروفة، باتت موجودة لدى القضاة المعنيين؟
هل ستسري هذه القاعدة على من تولوا ايواء الأسير في أكثر من منطقة، وبعضهم هويته معروفة؟
هل ما يجري في التحقيق اليوم سيتكرر أثناء التحقيق لدى مخابرات الجيش اللبناني في اليرزة بدءا من نهاية الأسبوع الحالي؟
أسهل جواب أن ثمة ضغوطا سياسية وقضائية كبيرة قد تؤدي الى اقفال هذا الملف عند حدود توقيف الأسير ومحاكمته، وهنا ينبري السؤال: اذا كان الجيش وباقي المؤسسات الأمنية، تمثل الحصن الأخير، لا بل الوحيد، للاستقرار والوحدة الوطنية، ماذا يمنع اعادة استهداف هذه المؤسسات ومن بعدها القضاة وأهل السياسة، اذا كان التعامل مع جريمة من نوع جريمة عبرا يتم بهذا النوع من «التسامح» الذي من شأنه نقل القضية من خانة الامن الوطني الى خانة المحظور سياسيا، بتبريرات تسيء الى الوطن ودولته وشعبه جميعا.