حرص الأمن العام على عدم تسريب مضمون التحقيق مع الموقوف الشيخ أحمد الأسير. أصدر المدير العام اللواء عباس ابراهيم تعليمات واضحة للضباط بمنع التسريبات. التزم الضبّاط الأوامر. المكلَّفون إجراء التحقيقات غابوا عن السمع، فأغلقوا هواتفهم الخلوية. السرية كانت سيدة الموقف في ما خصّ التحقيق الذي يجري بإشراف القضاء. غير أن «الأخبار» تمكنت من الحصول على مضمون التحقيقات من مصادر غير أمنية، إضافة إلى مضمون اعترافات الأسير منذ اللحظة الأولى لتوقيفه في المطار، ثم اعترافاته لاحقاً لدى فرع التحقيق حول مرحلة ما بعد عبرا وكيفية انتقاله إلى الشمال مروراً بالجهات التي كانت تموّله سياسياً ومالياً، وصولاً إلى قرار مغادرته البلاد والتحضيرات التي تخللتها.
بدأت القصة منذ نحو شهرين ونصف شهر. حصل الأمن العام على معلومة تفيد بأن الأسير يستعد لمغادرة البلاد، مشيرة إلى أنه يعمل على إنجاز وثيقة سفر.
وقد تضمنت الإخبارية معلومة أن الاسم الأول الذي سينتحله فيها هو «خالد»، من دون ذكر اسم العائلة. لكن لم تذكر المعلومة أن الوثيقة ستكون لشخص فلسطيني الجنسية. إزاء هذه المعلومة الواردة تحرك جهاز الأمن العام، فشكّل خلية أمنية تتابع المعابر الشرعية التي يُحتمل أن يعبرها الأسير. تكررت المعلومات من المصدر نفسه الذي أكّد أن الأسير حسم أمره بمغادرة لبنان. تحركت الخلية الأمنية فأصدرت تدبيراً في المطار يُفيد بضرورة التدقيق بجوازات السفر لكل شخص باسم خالد، وتحديداً التدقيق بالصورة والاسم، ليس اعتباطياً، إنما زُوِّدوا بمواصفات معيّنة لجهة الملامح والطول.
على مدى 20 يوماً، بدأ الأمن العام التدقيق في هوية كل شخص يحمل اسم خالد في المطار والمعابر الأخرى
واستعانوا ببرنامج للعمل على نحو عشرين احتمال للهيئة التي يُحتمل أن يكون عليها الأسير. (من دون شعر، من دون لحية، مع شاربين، مع عدسات للعيون، بنظارة ومن دونها، مع عمليات تجميل محتملة...). لكن لم يتبلغ الأمن العام في المطار بأن هذا التدبير احترازي بحثاً عن أحمد الأسير، إنما كان تدبيراً عاماً بحثاً عن مطلوب بهذه المواصفات فحسب. وعلى مدى عشرين يوماً أو يزيد قليلاً، بدأ التدقيق في هوية كل شخص يمر باسم خالد، حتى أنه أحياناً كان يتم توقيفه ليُحقق معه. ولدى وصول الأسير، أوقف مثله مثل أي خالد. لم يكن هناك أي معلومة تُفيد بأنه أحمد الأسير. جرى التدقيق بالوثيقة والصورة التي جاءت قريبة من صورة رُسمت له عبر برنامج كومبيوتر، ثم تبين أن الوثيقة التي بحوزته، تعود إلى شخص كان قد أبلغ أنها ضائعة. ووجه خالد المفترض أن الوثيقة مزوّرة، عندها أجابهم قائلاً: «أنا أحمد الأسير الحسيني». في الجلسة التحقيق الأولى معه في المطار لم يعترف إلا بأنه الأسير، لدرجة أنه يُنقل أن الضابط الذي كان يطرح عليه الأسئلة صُدِم من الخبر. أُبلغت المديرية ليُنقل إلى مركز الأمن العام. في أول تحقيق معه، يروي الأسير من ساعده لوجستياً في عملية الانتقال. وعلى إثر هذه الاعترافات، أُوقف شخصان أو ثلاثة كانوا يتولون توفير المستلزمات اللوجستية.
اعترافات الأسير
تتوزع اعترافات الأسير على ثلاثة مسارات: أحداث عبرا ومرحلة ما بعد عبرا (الدعم السياسي والمالي والتسليح والخلايا)، وصولاً إلى توقيفه. يتّهم الأسير سرايا المقاومة بأنها افتعلت الشرارة التي أشعلت أحداث عبرا والمواجهة مع الجيش، زاعماً أنه يملك وثائق تؤكد أقواله.
اعترف الأسير بأنه بعد أحداث عبرا، انتقل إلى الشمال. أما الكيفية، فيذكر أن زوجته وضعته في صندوق السيارة لتوصله إلى منزل رئيس «هيئة علماء المسلمين» الشيخ سالم الرافعي. يروي أنه مكث لدى الرافعي نحو أسبوع قبل أن يُصار إلى الاتفاق على أن يستقبله الشيخ خالد حُبلص. ويذكر أنه بقي عنده عدة أسابيع، كاشفاً أنه نقده خلال هذه الفترة كميات كبيرة من الأموال. بقي الأسير في ضيافة حُبلص حتى بدأت المضايقات والحملة الأمنية على جماعته في الشمال. عندها قرر العودة إلى صيدا حيث دخل مخيم «عين الحلوة». أقر الأسير بأنه مكث في المخيم فترة طويلة، ثم لأسباب أمنية قرر مغادرة المخيم. تحدث الأسير عن عدة محاولات للالتحاق بالجبهة السورية عبر الحدود، وتحديداً عرسال، لكنه لم يُوفّق. قرر عندها السفر إلى تركيا للالتحاق عبرها بالمعارضة السورية، لكنه لم ينجح أيضاً. لكن لم يُعرف سبب فشل محاولات الأسير، ولا سيما أن التهريب جارٍ على قدم وساق. ورجّحت المصادر أن يكون للأمر علاقة بتدهور العلاقة مع بعض المجموعات التي كان يُنسّق معها. بقي الأسير على هذه الحال إلى أن لاح له نجاح طريقة معينة لمغادرة البلاد.
عندئذ تواصل مع أصدقاء له من جماعة «بوكو حرام» بقصد السفر إلى نيجيريا.
اعترف الأسير بأنه تواصل مع أصدقاء له من جماعة «بوكو حرام» بقصد السفر إلى نيجيريا
بدأ العمل على أوراق ثبوتية، ليُنجِز وثيقة ويحصل على تأشيرة دخول إلى نيجيريا. يذكر الأسير أنه غادر المخيم منذ نحو 12 يوماً مشياً على الأقدام إلى منطقة الحسبة. هناك مكث في أحد المنازل عدة أيام، ثم تقرر نقله إلى منزل في جدرا. وفي المحطة الأخيرة، اتُّفق على أن يُغادر إلى المطار بتاكسي. وبالفعل حصل ذلك. صباح السبت انطلق الأسير. كان يحمل معه هاتفاً خلوياً يستخدمه حصراً للاتصال عبر تطبيقَي سكايب وواتساب، من دون أن يكون هناك كلام صوتي، إنما كتابةً. ويُبلغ زوجته: «إذا ما حكيتك الساعة 12، بكون اعتُقلت». وبحسب إفادة السائق يقول: «أنا وصلتو عالمطار وما صار في أي شي غير اعتيادي».
ركّز المحققون مع الأسير على مصادر دعمه مالياً وسياسياً، وكيفية حصوله على الأسلحة والدورات التدريبية على السلاح وتقسيمات مجموعاته، علما أن جزءاً من هذه المعلومات تملكها الأجهزة الأمنية من خلال إفادات موقوفين، لكن سيصار إلى مطابقة أقواله مع أقوالهم. وذكر الأسير أنه كان يحصل على التمويل من أشخاص مغتربين، كاشفاً أن أحدهم مغترب في البرازيل يعطيه المال تحت مسمى تبرعات والثاني لبناني يعمل في قطر. أما «مرحلة ما بعد عبرا» حتى يوم اعتقاله، فيجري التركيز على خلايا محتملة ربما يكون قد شكّلها. وعلمت «الأخبار» أن الأمن العام سيستوفي المدة المسموح بها قانوناً للتوقيف الاحتياطي، ليحال بعدها إلى فرع التحقيق في وزارة الدفاع حيث يتوقع أن يكون التحقيق الأساسي معه هناك. وقد رجّحت المصادر أن يُحال الأسير إلى الجيش اليوم أو غداً تبعاً لمسار التحقيق، بناءً على إشارة القضاء، حيث يتوقع أن كنز المعلومات سيُفتَح لدى المؤسسة العسكرية التي تملك ملفه الأساسي، علماً بأن «فرع المعلومات» في قوى الأمن الداخلي لم يطلب التحقيق معه حتى الآن.
يصلي ويتناول دواءه...
في مركز توقيفه لدى الأمن العام، يجيب أحمد الأسير، بسلاسة، عن معظم الأسئلة التي تُطرح عليه. وذكرت المصادر أن الأسير يقوم بواجباته الدينية، وأنه يأكل ويشرب، وخضع لفحصٍ طبي، وهو يتناول دواءه، علماً أنه يعاني من داء السكري. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس سعد الحريري ووزير الداخلية نهاد المشنوق توليا تغطية الأمن العام واللواء عباس ابراهيم، باعتبار أن الجهاز قام بواجبه وبالمهمات الملقاة على عاتقه. وتتركز الجهود الأمنية على توقيف المتورطين في مساعدة الأسير، علماً أن أنظار الأجهزة تتوجه صوب المخيم والشمال حذراً من احتمال حصول ردود فعل معينة، رغم أنه لا مؤشرات بعد تفيد بحصول ما قد يُعكّر الأمن.
نجح الأمن العام في امتحان الاحترافية. التنسيق بين الوحدات كان في أعلى مستوياته. السرية، حتى في البرقيات والتعميمات ضمن قطعات المديرية نفسها، كانت خطاً أحمر. ميّزت إنجازَ الأمن العام المواءمة بين جمع المعلومات ميدانياً ومقاطعتها، في موازاة الحرص على الاستفادة من التكنولوجيا والتطور في مجال الاستخبارات إلى أقصى حد. هذه النقطة التي التفت إليها اللواء عباس ابراهيم منذ تعيينه على رأس المديرية الأمنية، فاستثمر في الأمن لتطوير دائرة تنصّت بكادر بشري ومعدات متطورة كان لها دور بارز في معظم الإنجازات.
الأسير في ضيافة الشامي
فرّ عبد الرحمن فضل الشامي (مواليد 1970) فور سماعه بنبأ توقيف الشيخ أحمد الأسير. وبحسب المعلومات، فإن الشامي يقطن في جدرا، المنطقة التي تشهد أخيراً حركة لبعض المنتمين إلى التيار السلفي، وتتابع من قبل الأجهزة الأمنية. يعمل في بيع وشراء قطع السيارات ويمتلك محلاً في المدينة الصناعية في صيدا. كان الشامي على علاقة وثيقة بالأسير. لم يكن يُظهر التزامه الديني، ولم يرخِ لحيته. توارى عن الأنظار فور علمه بتوقيف شيخه، قيل إنه توجه إلى منطقة الغازية للاختباء عند أحد معارفه، لكن لم يُعثر له على أثر بعد. دهمت قوة من الأمن العام منزله مرتين، الأولى فجر الأحد، حيث ألقي القبض على نجله المعتصم بالله (مواليد 1994)، وصادرت الحاسوب الخاص به ومقتنيات أخرى. عاودت قوة الأمن العام دهم منزله بعد عدة ساعات، وصادرت سيارة الشامي من نوع بيجو 505 التي كان يستخدمها في نقل الأسير من مخيم عين الحلوة وإليه. بحسب إفادة الابن، نزل الأسير عند الشامي قبل يومين من انتقاله إلى المطار. وقد تولى الشامي الاتصال بأحد سائقي الأجرة من معارفه، لنقل ضيفه إلى المطار. ولدى شيوع اسمه، ذكر بعض عارفيه أن الشامي ينتمي إلى حركة حماس أو أنّه مقرّب منها، غير أن مصادر الحركة نفت ذلك وتبرأت منه.