في الوعي العونيّ ميل حادّ إلى زعم الفرادة: "الكلّ فاسدون ونحن لا". "ليسوا هم من حرّر لبنان بل نحن".
وإذا كان مفهوماً أن تصادر العونيّة محنة المسيحيّين الراهنة في لبنان والمشرق، فتستعير ضحويّتهم وتنسبها إليها، يبقى أنّ الضحويّة وزعم الفرادة رفيقا درب دائمان.
وهذا الميل الذي سبق أن استهوى شعوباً وجماعاتٍ، لم يُعدم نقّاده الذين رأوا أنّ الضحويّة إنّما هي الوجه الآخر للبراءة المطلقة، أي لانعدام الشعور بالذنب، وتالياً بالمسؤوليّة. فالضحويّ خيّرٌ جوهريّاً لأنّه عاجز عن ارتكاب الشرّ ولا يستطيع بالتالي إلاّ أن يكون خيّراً. "عيبه" الوحيد أنّه "أطيب من اللازم".
وإذا كانت الإنسانيّة تكتسب أحد أنبل معانيها من توسيع فكرتها، ومن تجاوزها التدريجيّ للجماعات وللفوارق الجزئيّة بين البشر، فإنّ الضحويّ لا تقوم له قائمة إلاّ بالعزف على وتر الخصائص الجوهريّة. وكيف لا يكون جوهريّاً ذاك الفارق بين طرف لا يستطيع إلاّ أن يكون خيّراً وأطراف لا يسعها إلاّ أن تكون شريرة؟!
لهذا لا بدّ، كإحقاقٍ جزئيّ للحقّ، أن تُقدَّم للضحويّ المغبون تعويضات وامتيازات. وفي هذا المعنى يصير مطلوباً إشهار الألم، بل المتاجرة به، بوصفهما طريقاً إلى الكسب الخالص للتعويضات والامتيازات المستَحقّة. وعن ذلك ينشأ تزوير وظيفيّ حاسم، بحيث يتحدّث الضحويّ، حتّى حين يكون جلاّداً، أو في المتن، بلسان الضحيّة والهامش اللذين لا يشبههما البتّة.
والتزوير الذي تمارسه العونيّة متعدّد المستويات: فعون لم يكن قائداً للورعاء اليهود (زيلوتس) أو للقرامطة الإسماعيليّين أو لمنزوعي السراويل (سون كيلوت) الفرنسيّين، بل جاء من متن المتن، أي من قيادة الجيش. فهو إمّا "جنرال" أو "دولة رئيس"، وهو ممثّل للفئات الأكثر ثراءً وتعلّماً بين المسيحيّين، ممّن يتظاهرون وهم يستهلكون الشمبانيا والسيجار (ولو تهكّماً واحتجاجاً).
وعون مرشّح لرئاسة الجمهوريّة، يضطلع ترشيحه (الذي يراد له أن يكون حصريّاً ومجمعاً عليه ومضموناً سلفاً) بالدور الأبرز في تعطيل انتخاب رئيس جديد. ثمّ إنّه هو وتيّاره ممثَّلان في البرلمان وفي الحكومة، استطاعا مرّةً بعد مرّة فرض الصهر جبران باسيل وزيراً، على رغم رسوبه في الانتخابات العامّة.
وغنيّ عن القول إنّهما، من موقعهما هذا، شريكان في سياسات ومواقف لا يكفّان عن التذمّر من بعضها.
وعون وتيّاره، بعد كلّ حساب، متحالفان مع القوّة العسكريّة الأولى في البلد، حزب الله، يحظيان بمظلّتها الحمائيّة الوارفة، ويستفيدان من النتائج السياسيّة والاقتصاديّة المترتّبة على وجودها. وقبل يومين كرّس حسن نصرالله حليفه بوصفه عامله في رئاسة الجمهوريّة.
إلاّ أنّ التزوير الآيل للحصول على تعويضات ومكافآت يتعدّى ذلك. فحقوق المسيحيّين، والحال هذه، لا تعني عونيّاً إلاّ عدداً من التعيينات، لا سيّما منها التعيينات ذات الطابع العائليّ. ثمّ إنّ الضيعويّة الأبرشيّة الضيّقة الأفق والكارهة للغريب لا يروقها، في ظلّ التحاقها بحزب الله ولغته، إلاّ التصدّي النضاليّ لإسرائيل بما يضمنه من رضا مطلوب وواسع!
وأهمّ من ذلك، في التزوير، أنّ لبنان عرف تاريخاً مديداً في محاولات تفسير الطائفيّة بعوامل تقع خارجها، كالاقتصاد أو نقص التعليم... وهي محاولات كانت، على رغم سذاجتها أو ابتذالها، حسنة النوايا.
لكنْ على الضدّ منها، ردّت العونيّة بمزيد من تطييف الطائفيّة على نحو يضمن لها استمرار العداوة التي تدرّ الأرباح: فالعصريّة وباقي المواصفات الإيجابيّة لا تتحقّق، في عرفها، بمحاصرة الطائفيّة، بل تتمّ حصريّاً بمحاصرة السنّة. ولئن راهن نقّاد الطائفيّة على فرز داخل الطوائف، حتّى لو توهّموه أحياناً، فإنّ السنّة، في التأويل العونيّ، هم من لا يفصل فاصل بين واحدهم والآخر: فتمّام سلام وسعد الحريري وفؤاد السنيورة وأبو بكر البغدادي واحد أحد. وكيف لا يكون الشيطان واحداً ما دام الملاك الذي يقابله واحداً؟
هكذا يرتاح العقل البسيط ويطمئنّ... وأكبر الشرور إنّما صدرت دائماً عن أبسط العقول!
المصدر:ناو