"لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم مرتعه يقضي إلى الندم، تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم". صدق قول الإمام علي، فالمظلوم لا ينام، وإن نام فربّما في العراء، حرّ الصيف يقذفه ويتلقفه برد الشتاء فيحرما عينيه النوم، يبقى مستيقظاً يدعو على والديه، وعلى ظالميه ومضطهديه. الظلم كفرٌ فكيف لو اجتمع مع الفقر، أحياناً يقسو القدر من دون رحمة.
علي ابن السادسة عشرة ربيعاً مشرّدٌ في الطرقات، هرب من أهله، لتحضنه أحجار الرصيف يوماً ويحنو عليه ظلّ شجرة في يوم آخر، شهور مرّت به على هذه الحال. عيون كثيرة تترصّده، بعضها يشمئز من الأوساخ التي تكسو جسده النحيل، أخرى تتجاهله أو ربّما تهرب منه، تخاف من صحوة ضمير نائم، أمّا عيونه فتلاحظها وتدقّق في نظراتها، تثور نفسه ضدّ الظلم والفقر، يريد قتلها كلّها والتخلّص منها، لكن لا حول ولا قوّة له.
قُيّدت بالجنازير ورميت بالعظام
هرب علي منذ نحو سنة من ضيعته البقاعيّة، هرب من ظلم من وهباه الحياة، ظناً منه أن خارج القفص الذي سجن فيه أعواماً سيكتشف حياة مختلفة، فإذ به يخرج إلى قفص أكبر، "تركت عين كفرزبد وأهلي وفررت إلى بيروت، لا أفكّر أبداً بالرجوع إليهم، لن أعود أبداً. كانا يضربانني، يربطانني بالجنازير ويرميان لي العظام، كانا يعاملانني ككلب".
ينظر علي إلى يديه، إلى آثار العنف التي تغطي جسده، يحاول إخفاء عقد السلاسل الحديد التي طبعت يديه الصغيرتين "أترك أمركما لله. يا حسبك يا إمي ويا ويلك يا بيّ. لم يعمل أبي يوماً، صورة وحيدة له مطبوعة في رأسي، صورته مع كأس الويسكي أو العرق وسجائر الحشيشة. أمّا أمي فليست أفضل منه. لقد هربت منهما فلست أنا من ترمى له العظام أو الخبز العفن. الأيّام آتية غداً سأرمي العظام على قبورهم لا الورود".
رحلة جديدة أكثر ألماً
عندما ترك علي عين كفرزبد، مشى كثيراً، لم توقفه أشعة الشمس الحارقة، ولم يرتدع أمام أي خطر، أمله الوحيد كان الخروج من ضيعته والابتعاد عن أهله، مشى ومشى إلى أن أُنهك، ركب أحد الباصات، حتى انتهت به رحلته في الدورة. نام تحت جسرها، بقي أياماً من دون طعام، ظنّه كثيرون لاجئاً هارباً من الحرب، لم يخطئوا فهو هارب ولكن من الظلم، هو طفل من هذا البلد الذي بات يخفي قصّة مأسويّة وراء جدران كلّ بيت من بيوته. يتابع علي: "بقيت أسابيع أنام في الشارع ليلاً وأبحث عن عمل نهاراً، عثرت على عملٍ في أحد مطاعم الدورة وصرت أنام فيه. كنت ألفّ سندويشات، وأنظّف المطعم أكنس الأرض داخله وأمامه، أنظّف الطاولات، كنت أعمل من الفجر وحتى ساعة متأخرة من الليل، وأتقاضى خمسين ألف ليرة لبنانيّة شهرياً، ويقولون لي "بزيادة عليك" فعلاً "بزيادة عليّ... الله لا يسامحهم"، وكأن تعبي حلالٌ لهم".
عمل شهوراً ثمّ ترك المطعم، لم يعد علي يتحمّل المعاملة البشعة "تركت العمل، لم أعد أحتمل الصراخ في وجهي، "كانوا يبهدلوني ويسبوني". تركت لهم المكان ورحلت، وها أنا أبحث عن عمل جديد. تركت العمل منذ شهر، أنام على الطرقات وفي الحدائق العامّة، إلى أن أعثر على عمل جديد. أنا لست متسوّلاً، أريد أن أعمل وأحبّ العمل. "بحياتي ما قلت لواحد عطيني ألف"، أبقى أياماً بلا طعام ولا أطلب شيئاً من أحد".
مدرسة الشارع
لم يذهب علي يوماً إلى المدرسة، لقد تعلّم لغة الشارع وقوانينه، لم يعش طفولة تليق بالأطفال، لم يلعب، لم يضحك، لم يفرح، اغتصبت براءته، فلم يعد طفلاً ولم يصبح رجلاً، الظلم أكسبه معرفة حتى بات لديه حكمته الخاصّة "لا أسمح لأحد بأن يضربني، من سيمدّ يده عليّ سأضربه ثمّ أطلب له الدرك لأخذه، لقد فقدت عقلي. أنا منيح مع المنيح، لكن من يحاول اللعب معي سيلقى نصيبه. هذا ما علّمتني إيّاه الحياة".
لا يملك علي سوى الثياب التي يلبسها، بنطال حوّله "شورت" وقميص ملوّث. يضع سيف ذو الفقار حول عنقه، يستمدّ منه القوّة لمجابهة الظلم ربّما، وإيماناً بأن غده سيكون أفضل، ويجول في شوارع الكسليك علّه يتعثر بحظ جيّد. يتابع: "لا أملك سوى الملابس التي أرتديها، انظروا إليّ، أهذا منظر إنسان أم كلب؟ قصصت الجينز في الصيف، لكنني لا أنام من البرد خلال الليل، أفترش الأرصفة أحياناً، وأختبئ في الحدائق العامّة في أحيان أخرى".
أمنيات علي ليست بمستحيلة، كلّ ما يريده هو أن يلعب مثل كلّ الأولاد، أن يرى شقيقه الصغير هادي، وأن يكون لديه أمٌ تناديه "يا ابني"، ويتابع والدموع تنسال على خديه، وبصوت متهدّج لا يخلو من التأتأة: "لقد حرمت من رؤية شقيقي هادي، لقد اشتقت إليه وأتمنى رؤيته واللعب معه. أتمنى أن تتبناني سيّدة فتكون أمي، منايا أن أقول ماما وأن أسمع كلمة يا ابني". ويدير ظهره وهو يردّد: "الله لا يوفقك يا إمي، الله لا يسامحك"...
كيف نتحرّك؟
يُعتبر علي اليوم طفلاً مشرّداً، مثل كثيرين من الأطفال الذين يفترشون الطرقات، ويتحوّلون صيداً لعصابات الاتجار بالبشر، هذه الظاهرة المتزايدة في لبنان في السنين الأخيرة. فكيف يمكن حمايته من هذه العصابات أو تخليصه منها في حال كانت تستغله إحداها؟ تقول مصادر في وزارة الشؤون الاجتماعيّة لـ"النهار": "عند وجود حالات مشابهة يجب تبليغ القوى الأمنيّة لتتحرّك وترفع الأطفال من الشارع وتحقّق معه بحضور مساعدة اجتماعيّة، ثم تبليغ وزارة العدل من خلال النيابات العامّة بحيث يتحرّك قاضي الأحداث ويصدر قراراً بوضع هؤلاء الأطفال في مؤسّسات اجتماعيّة بالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعيّة". وتتابع المصادر: "يمكن أي شخص أن يبلغ القوى الأمنيّة أو وزارة العدل أو وزارة الشؤون، أو مصلحة حماية الأحداث، لاتخاذ الإجراءات القضائيّة المناسبة، ولكن الأهمّ وجود قرار قضائي".
من جهة أخرى، يقول المحامي ميشال فلّاح من جمعيّة "الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان" UPELلـ"النهار": "يجب تقديم طلب حماية، شرط تأمين المعلومات حول الطفل المشرّد ومعرفة أين يسكن وأين يعمل ومن هم أهله، أو أقله المكان الذي يتردّد إليه كثيراً، فالقاضي لا يستطيع إصدار قرار دون معطيات واضحة وتقارير حول الحالة وعناوين واضحة، ليكون القرار القضائي قابلاً للتنفيذ. لذلك بداية علينا التأكّد من رواية الصبي، وأن نعرف أين مكانه".
وعن المسؤوليّات الملقاة على عاتق وزارة الشؤون والصلاحيّات المنوطة بها، تقول المصادر نفسها: "تتعاقد الوزارة مع جمعيّات اجتماعيّة متخصّصة بهذه الحالات، فإذا رأي القاضي وضع الطفل في إحدى هذه المؤسّسات، عندها يتمّ التنسيق معنا، خصوصاً إذا كان الطفل معرّضاً للخطر من عصابات الاتجار بالبشر أو يتعرّض للعنف من عائلته، أو إعادته إلى عائلته في حال كانوا أهلاً لرعايته".
(فيفيان عقيقي)