برزت في الأيام القليلة الماضية مجموعة من المواقف والخطابات لقادة محور «المقاومة والممانعة«. خطابان للأمين العام لـ«حزب الله« السيّد نصرالله، وخطاب لرئيس النظام السوري بشار الأسد. وفي هذه الإطلالات الثلاث، ظهر جانب الإحباط والتخبّط، وغابت أدبيّات اعتاد الجمهور سماعها، واستُخدمت مصطلحات جديدة، من شأنها ان تفتح نقاشات داخل «بيئة المقاومة« حول أعوام الحرب وأهدافها ونتائجها.
خطابان للسيّد نصرالله، طغى عليهما «التواضع« امام المشهد الاقليمي الاوسع، مبتعداً عن استخدام عبارات لطالما استهلكها اصحاب القبضات الغاضبة الهاتفين «لبّيك يا نصرالله«. فالسيّد الذي أعلن في نهاية تشرين الأول من العام 2013، ان «محور الحرب على سوريا انهزم ومحور المقاومة انتصر، ونحن في الربع الساعة الأخير قبل ترجمة هذا الانتصار«، لم يكن نفسه نصرالله الذي تحدّث في خطابه الأخير عن «اضرار حقيقية لحقت بمشروع المقاومة جراء احداث المنطقة«. نصرالله الذي اكد طوال سنوات ان «لا صحة لكل ما يقال عن خلافات داخل محور المقاومة«، ليس نفسه نصرالله الذي طالب في حديثه الاخير بوجوب «تقييم من يدعمنا ومن يبيعنا في سوق النخاسة«. نصرالله الذي حسم سابقاً حتمية انتصار مشروع محوره في سوريا، لم يكن نفسه نصرالله الذي توجّه في خطابه ما قبل الاخير للرئيس الحريري، قائلاً: «يتوجّب على كلانا عدم الرهان على الحرب السورية«.
نصرالله الذي «شيطن« شعوب المنطقة ووصف كل الذين يعارضونه بـ«التكفيريين«، وساهم ولا يزال في قتل وتهجير مئات الآلاف، لم يكن نفسه الذي طالب بضمانات من الاغلبية السنية «المعنية بأن تطمئن اتباع المذاهب الاسلامية الأخرى«! نصرالله الذي قال في خطابه ما قبل الاخير «إن من يعادي ايران انما يعادي فلسطين والقدس«، ليس نفسه السيّد الذي ابدى أمس الأوّل استعداده لإسقاط كل الحسابات والاعتبارات، ولحمل الراية خلف كل من يتقدم الصفوف لاستعادة فلسطين«. نصرالله الذي أكّد في خطابات سابقة «إن التكفير يشكّل خطراً وجودياً أكبر من الخطر الإسرائيلي«، لم يكن نفسه نصرالله الذي قال في حديثه الأخير، انه «لا وجود لقضية او معركة تتمتع بالصدقية والشرعية كقضية فلسطين والقدس والعداء للصهاينة«.
اما خطاب الاسد، امام رؤساء النقابات المهنية وغرف الصناعة والزراعة والسياحة، فهو لم يكن أفضل حالاً، لكنه أخذ بمعظمه طابعاً كوميدياً. من أقواله المأثورة في ذلك الخطاب، قوله: «إن انسحاب القوات السورية الباسلة من بعض المناطق يأتي للحفاظ على مناطق أهم«! وفي سطور أخرى اكّد ان قواته «قادرة بكل تأكيد على حماية الوطن«! كيف يحمي جيش الاسد أرض الوطن بالانسحاب من مناطق في هذا الوطن لحماية مناطق أهم؟ اللهمّ إلّا إذا كان الأسد يوحي بأن ما تبقى له من مناطق في سوريا، هي أرض الوطن الفعلية. وبعد لحظات، يقول رئيس النظام السوري ان «لا وجود لانهيارات داخل صفوف قواته«، ويستدرك قائلاً ان «الاحباط يسيطر على مؤيديه وعناصره«! كيف؟ وبعدها، يؤكّد ان الشعب السوري يواجه المخطط التكفيري، ومن ثمّ لا يلبث ان يقرّ بنقص القوة البشرية في قواته، ويعترف بأهمية دور «المقاومة الاسلامية-حزب الله« في مواجهة الارهابيين! كيف؟ ما حاجة الاسد الى مساندة حزب الله إن كان «الشعب السوري« يواجه الارهاب؟ وفي نهاية الخطاب، اكد الاسد ان «الشعب السوري سينتصر«، لكنه سرعان ما قدم تعريفاً فلسفياً عن الوطن والمواطن والشعب، فيقول، «إن الوطن هو لمن يدافع عنه ويحميه، والشعب الذي لا يدافع عن وطنه لا وطن له، ولا يستحق ان يكون له وطن«. هنا، «بقّ الاسد البحصة«، وخرج بجملة مفيدة وصريحة، ومفادها ان الوطن هو للايرانيين ولـ«حزب الله« والعراقيين والافغان الذين يدافعون عن سوريا، وليس للشعب الذي تآمر على نظامه.
انهى الرجلان خطابات «الانسحابات التكتيكية« بهدوء وبلا ضجيج. لم ينزل مناصرو الاسد الى «السبع بحرات« لدعم رئيسهم وخطابه، كما لم يتفاعل جمهور «حزب الله« مع تراجعات السيّد. «العقل الجمعي« لا يقبل احتمالات غير النصر الواضح والصريح. «ثقافة كما وعدتكم بالنصر دائما« لا تتحمل التراجعات. بات العازل الخفي بين قادة الممانعة وجمهورها كبير. في زمن الاصطفافات المذهبية، يمكن ان يحصر الجمهور تساؤلاته ونقاشاته «بين اربع حيطان« دون ان تخرج الى العلن. لكن اسئلة كثيرة باتت تعوم على السطح: كيف يتحدث نصرالله عن الحل السياسي في سوريا، ومن ثم يخرج الاسد ليعتبر ان اي حديث عن حل سياسي هو اجوف وعديم الفائدة؟ لا، هذا ليس تقسيما للادوار. اين هو النصر الالهي؟ لماذا لم يتحدث السيد في خطابَيه الاخيرين عن معركة الزبداني؟ تلك المدينة التي صمدت لشهر كامل على الرغم من الحصار الطويل ومن إمطارها بآلاف الصواريخ والقذائف والبراميل المتفجرة؟ ماذا حدث في جبهة القلمون، وأين اصبح «رجال الله« فيها؟ وما يزيد طين هذه التساؤلات بلّة، هو في قول السيّد، مستعيداً خطاب فلسطين والقدس، إن «إستعادة فلسطين والقدس يجب ان تكون جديرة بهذا النصر وبحفظ هذا النصر، وعدم تضييعه كما ضاع الكثير من الانتصارات«... على «طريق القدس«!
علي رباح