هل ثمَّة مبالغة إذا ما قلنا بأنَّ مجتمعنا بشكلٍ عامٍ ،أصبح لا يتحمَّل المثقَّف الحر، وبدأ بنبذ مثقفيه ويضيق ذرعاً بهم وبآرائهم وبتوجهاتهم وكتاباتهم، وأخذ يعمل على عزلهم وإقصائهم ، وكأنَّ المثقفين أصبحوا يشكِّلون خطراً عليهم وعلى هوياتهم الدينية والحزبية ..
ظاهرة خطيرة لم نكن نحن كشيعة نعيشها ونلمسها من ذي قبل بما يسمَّى بالإقطاع السياسي من إفتراءٍ وتخوينٍ وعمالةٍ لسفارةٍ أو عمارةٍ أو لدولةٍ إقليميةٍ ، لأنَّ العقيدة الشيعية قائمة على الإختلاف والإجتهاد وتعدّد الآراء وهو المذهب الذي سمي بالمذهب العقلي .
بالتأكيد أقصد بالمثقف غير المحزَّب والمؤدلج ، والمثقف القومي الذي يضع نفسه وكيانه وفكره ووجوده وثقافته وتحوَّل من مثقفٍ معارضٍ للسياسة والسلطة ،إلى منظمة داعمة لها ومصفٍّق وهاتفٍ وصارخٍ وفادياً بحياته ضمن الجماهير من البسطاء ومن الخائفين على لقمة العيش ، لا سيما عندما استعملت السلطة الشيعية والسياسية والسياسيون أسلوباً دونياً بتجويع المثقف الذي وجد نفسه مضطراً لأن يكون صوتاً للذي يدفع(الجوع أبو الكفروسيده المطاع) ..
ما زالوا يعيشون خبط عشواء في وسط مجتمعٍ هو نتاج حالة ماضوية واقفة على ما يسمَّى بالتراث الغارق في النقل والمنقول ، وما زالوا يدافعون عن القضايا المصيرية التي يعتبرونها أهم بكثير من الدفاع عن حقوق الإنسان في وطنهم، وإن جاؤوا بمسميات جديدة إلا أنها ما زالت حبيسة أوهامٍ يعتقدون فيها أنَّ العالم يتآمر على التراث والتاريخ والثقافة لأنهم مشبَّعون بشحناتٍ ثقافيةٍ وحزبيةٍ هي التي سبَّبت الفارق مع الآخر المختلف عنهم..
وما زالوا يعيشون حالة من الخوف على الهوية والمعتقد ، وإلاَّ تكون في خانة العداء للإسلام وفي خانة العملاء والخونة وإضعاف الطائفة وتكون من الذين يسعون في الأرض فساداً وخراباً ودماراً ، ناسين ومتناسين الفرق بين السياسي والمثقف ، هو أنَّ السياسي مهما طال حكمه ومهما كان عظيماً تبقى الفائدة منه ضيقة ومحصورة ، بينما المثقف الحر هو اشبه بنبعٍ جارٍ شرب منه أجيالاً وسيشرب منه آخرون ، لأن المجتمع في تقدُّمٍ دائمٍ ،وبهذا تكون الحاجة إلى المثقف أكبر من الحاجة إلى السياسي .
إنهم يُسوِّقون لبضاعةٍ مزجاةٍ وفارغة لا تحوي إلاَّ الوهم والصدأ، وما يهمنا هو المثقف الحر الذي يمارس دوره الثقافي والكتابي بكل حريةٍ وجرأةٍ ،وبدوره المعرفي والأدبي والنقدي الذي تحرَّر من كل الأوهام والسخافات والخُرَافات والتصفيق والهتافات المباشرة أو عبر الشاشات، وهو الذي لا يلزم نفسه بتاريخٍ موروثٍ ولا يهدر كرامته وحريته إرضاءً لجموع الهاتفين في الإستعراضات الإستهلاكية ،لأنه إنتهج طريق التوجيه والمساءلة والنقد والمحاسبة، لذلك سنصطدم بتلك الحالة التعبوية في مجتمعنا الذي نبذ كل مثقفٍ حرٍ عارض سياستهم ووضع في خانة الخيانة والعمالة .
وهذا لم يثنِ المثقفين الأحرار عن متابعة طريقهم في التنوير ومحاربة العصبيات ومحاربة الإرتهان، إلى مواكبة الحداثة والإنفتاح على كل المكونات في هذا البلد وفي المجتمع العربي والإسلامي، ومشاركتهم في صناعة الواقع المعرفي الجديد المتداول بينهم من إجل حياة أفضل ..
نعم أيها الأحرار المثقفون إعتبروكم عبئاً عليهم وعلى سياساتهم وأخذوا ينالون منكم ويتهمونكم ويشتمونكم عبر وسائلهم الإجتماعية ، ناسين أنَّ تلك السياسات ستموت ولن يبقى إلاَّ نبعكم الجاري الذي يشرب منه أجيالنا ويشرب منه آخرون..