لبنان بلا رئيس للجمهورية، لليوم السادس والعشرين بعد الأربعمئة على التوالي.
آلاف الأطنان من النفايات مرمية في شوارع العاصمة وضواحيها الجنوبية والشمالية والشرقية ومعظم جبل لبنان.. حتى الآن، والحبل على الجرار.
وإذا كان اللبنانيون قد أدمنوا الفراغ لكثرة ما تتكرر فصوله في مؤسساتهم الدستورية في العقد الأخير، فإن أخطر ما شهدناه في الأيام الأخيرة، عدم إبداء اللبنانيين أية ردة فعل إزاء أكوام النفايات التي حاصرتهم في منازلهم وأعمالهم وطرقاتهم.
لم ينزل عشرة لبنانيين بشكل عفوي إلى الشارع للاحتجاج على مشهد وعلى كارثة يمكن أن تصيب كل بيت بالأمراض والأوبئة. ماذا ينتظرون أكثر من ذلك؟
إنه التخدير الطائفي والمذهبي الذي يجعل زعماء لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، بمجرد إيماءة صغيرة بشفاههم أو أيديهم، تتحول «المجموعات» أو «الجماعات» اللبنانية إلى «بلوكات» طائفية ومذهبية مستنفرة بغرائزها وأحقادها من دون أن تضع قيمة لمصالحها أو للخطر على حياتها.
أي لبنان هذا الذي نعيش فيه؟ أي لبنان نورثه لأجيالنا؟ أي لبنان ندعو مغتربينا (بعد أن نسينا السائحين العرب والأجانب) لزيارته؟ وأية صدفة سنوية أن لا ننبش أحقادنا و «مطالبنا الفئوية» إلا في عز موسم يراهن كل بيت لبناني عليه، لعله يعوض عليه بعض ما فاته في أيامه السوداء، وما أكثرها في ظل الحريق الإقليمي الكبير.
لو حلم اللبنانيون، في عز مواسم توافقهم وإجماعهم الوطني، لما تسنى لهم أن يأتيهم سياسي توافقي الى رئاسة الوزارة من قماشة تمام سلام، فكيف وهو الذي احتل المنصب في أحلك أيامنا الوطنية والعربية؟
ما جرى ويجري سياسيا منذ أسبوعين ونيف، لا يجوز أن يمر مرور الكرام.
ومهما حاول تمام سلام أن يمنح فرصا زمنية وسياسية للتفاهم على آلية تحمي حكومته، فإن النتيجة التي سيصل إليها معروفة منذ الآن: لا أحد يملك وصفة سحرية لقضية «الآلية».
لن يتنازل ميشال عون عن مطالبه بعنوان «الشراكة». للرجل أن يختار الأساليب التي يعتقد أنها تناسبه وجمهوره في معركته الأخيرة في ساحات الرئاسة والدولة والبيئة المسيحية، وحتى الحزبية.
وفي المقابل، لن يتنازل تمام سلام أكثر مما تنازل حتى الآن. لقد أعطى الرجل لحظة تم تدشين الفراغ الرئاسي، قبل سنة ونيف، ما لا يمكن أن يعطيه رئيس حكومة في تاريخ لبنان، حتى كاد البعض من أبناء ملته أن يرميه بـ «الحرم السني»، وبرغم ذلك، وقع في محظور «تساهله» واستعداده المتكرر لتدوير الزوايا، خصوصا أنه ينتمي تاريخيا إلى بيت سياسي بيروتي عريق مجبول بالتسويات التوافقية و «التفهم والتفاهم»!
أما وان اللبنانيين يحترفون مهنة تضييع الفرص، فإن المناخ الذي بدأ يلفح المنطقة بعد «التفاهم النووي» يشي في أفقه البعيد المدى بتسويات للعديد من ملفات المنطقة، لكن إصرار البعض على الغرق في الحسابات الضيقة، بات يهدد الحكومة والاستقرار في آن معا.
نعم، ليس خافيا على أحد أن استمرار هذه الحكومة وحمايتها، في ظل الفراغ الرئاسي والتشريعي، كما في ظل استمرار تسمم مناخات المنطقة في هذه اللحظة تحديدا، يفترضان أن يكونا محل إجماع محلي وخارجي لا يرقى إليه الشك، لكن الاستعجال والارتجال وربما القراءة الخاطئة لما يجري من حولنا، بات يهدد الاستقرار اللبناني بحده الأدنى الذي لا يريد أن يخسره أي لبناني، إلى أي طائفة أو منطقة أو جهة انتمى.
ولنفترض أن التوافق سيحصل الثلاثاء المقبل، وهو مستبعد، كيف سيتصرف رئيس الحكومة في السادس من آب المقبل، عشية إحالة رئيس الأركان الحالي إلى التقاعد؟ وكيف سيتصرف في أيلول المقبل عندما يحين موعد تقاعد قائد الجيش اللبناني؟
سيوقع وزير الدفاع إن كان اسمه سمير مقبل أو الجنرال برنارد مونتغمري قرار تمديد مهمة هذا وذاك ولن يكون مسموحا، لا محليا ولا خارجيا، أي تفريط بالاستقرار اللبناني، مهما كانت حسابات هذا الطرف أو ذاك.
في المقابل، فإن المعترضين على قرار التمديد، سيجدون أنفسهم أصحاب مصلحة بخوض المعركة استباقيا ـ أي في آب وليس في أيلول ـ لإعطائها «بعدا وطنيا» و «مبدئيا»، سواء بالنزول إلى الشارع أو الاعتكاف أو الاستقالة أو غيرها من «المفاجآت» التي يخبئونها للرأي العام اللبناني!
وفي تقدير المعنيين بمصير الدولة وشعبها، قبل الحكومة وبعدها، فقد آن الأوان أن يتصرف الرئيس تمام سلام كما عرفه اللبنانيون جميعا.
وإذا كان البعض يدفعه إلى «المشكل» ظنا منه بأنه أضعف من أن يتخذ قراره بيده، فإن هذه اللحظة تاريخية.
ولا نفترض أن أحدا يسجل عليه أنه أخذ البلد إلى فتنة من أي نوع كانت، سواء بعنوان الفتنة المسيحية ـ الإسلامية أو الفتنة السنية ـ الشيعية أو الفتنة المارونية ـ السنية.
إن اللبنانيين ينتظرون من هذا الرئيس الذي يمثل التوافق الوطني أن يقيس الأمور بميزان من الذهب. إذا كان الحفاظ على الحكومة بأي ثمن، سيؤدي إلى فلتان الشارع وربما سقوط دم هنا أو هناك، أو سيؤدي إلى تصاعد الخطاب الطائفي والمذهبي، فإن حماية الاستقرار تتقدم على ما عداها، وعندها لن يكون مستبعدا أن يرمي الرئيس سلام كرة النار في حضن الجميع، من أقربين وأبعدين.
إذا كانوا يهددونه «بحكومته»، فليبادر إلى تهديد الجميع بحرصه على بلده وناسه من دون استثناء.
إن الجميع يدرك في هذه اللحظة التاريخية أن لا قدرة على لفت انتباه أحد لبلدنا، في ظل أولويات مرتبطة بمدى اقتراب النار من هذا «الأمن القومي» أو ذاك.
إنهم يحاولون حشرالرئيس سلام في الزاوية. كلهم يعلمون علم اليقين أن لا أحد بمقدوره أن يسمي رئيسا ثانيا للحكومة بمواصفاته وباعتداله وتوازنه وإدارته الوسطية وعقله التوافقي.
وإذا كان البعض يعتقد أن تعطيل الحكومة أكبر من الرئيس سلام وأقوى من إرادة الجميع داخليا، فإنها لحظته بأن يضع الجميع أمام لحظة المسؤولية.
لا يجوز أن ينتظر اتصالا يطلب منه رأفة بالحكومة أو يحرضه على المواجهة ويقول له: «لا تقبل أن تكون خيال صحرا».
لا يجوز أن يقبل بتعطيل مجلس الوزراء وتحميله مسؤولية النفايات المتراكمة ولا رواتب الموظفين غير المضمونة ولا الكهرباء المهددة ولا الخدمات الكثيرة التي تقحم في بازار التوظيفات السياسية الرخيصة.
هذه اللحظة ليست لحظة التسويات الإقليمية.
أهون الشرور أن يبادر الرئيس سلام وأن يقتحم وأن يختار التوقيت بدل أن يفرض عليه، خصوصا أن هناك من يعتقد أنه بالضغط في موضوع الحكومة قد يفوز بمنصب «كبير» من هنا أو بمنصب «صغير» من هناك.
ورب ضارة نافعة. لتمام سلام أن يتراجع عن الاستقالة في غياب من يقبلها.. إذا شعر أن وظيفتها قد أدت غرضها، أو ليكن تصريف للأعمال، ما دام أن الواقع يشي بأننا نسير على هذا الدرب الإلزامي.
وللرئيس سلام أن يحفظ كرامته وكرامة كل لبناني، ما دام أن البعض يدفع البلد حتى يكون لكلٍّ «مزبلته» في هذه الدولة الطائفية البغيضة.