عندما وصل وليد المعلم وبثينة شعبان وفيصل المقداد إلى لقاء فلاديمير بوتين، في 29 حزيران الماضي، لم يخطر لأحد أن يُمنع الإعلام من دخول قاعة الاجتماع. ففي الدقائق الأولى من اللقاء، استمع الصحافيون، إلى الفقرة الأكثر إثارة في اللقاء بين الرئيس الروسي ووزير الخارجية السوري ونائبه ومستشارة الرئاسة السورية.
ودونما تحفظ عرض بوتين، أمام الصحافيين، فكرته المستجدة بإقامة تحالف ضد الإرهاب، يجمع لا اقل وأكثر، سوريا والسعودية وتركيا والأردن. عبّر السوريون في ما بعد عن مفاجأتهم بتلك الطريقة غير المألوفة في تقديم عرض «ثوري» سيقلب أوضاع المشرق العربي، رأسا على عقب، لو قُدر له يوما ما أن يتحقق.
المعلم، وهو ديبلوماسي مجرّب وعتيق، يصعب سبر أغواره وإدهاشه، سيخرج مع ذلك، في مؤتمر صحافي، عن تحفظه الغريزي، ليتبع حدسه الأول، ويصف التحالف مع السعودية ومن يموّل الإرهاب «بأنه يحتاج إلى معجزة».
وفّر اللقاء الديبلوماسي الصحافي المفتوح لبوتين فرصة توجيه الرسالة المطلوبة إلى زائر سعودي التقاه قبل موعده السوري بعشرة أيام في سان بطرسبورغ في 19 حزيران. لا يوجد تفسير آخر لذلك البث الديبلوماسي المباشر لفكرة كان بوتين قد طرحها على ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، سوى دفع الجميع نحو خيارات صعبة، وتوجيه رسائل علنية لجميع الأطراف، وإدهاش الشريك السعودي الجديد لتشجيعه على المراهنة على روسيا في سوريا وفي اليمن.
وبرغم المفاجأة، والمقارنة بطلب معجزة، طلب الروس جواباً من الرئيس السوري بشار الأسد على العرض، وحصلوا عليه في الساعات التي تلت ذلك اللقاء، وكان ايجابياً.
وبحسب مصادر عربية مطلعة طلب الرئيس الروسي من الجانبين، السعودي والسوري، إيفاد مبعوثين يحملان تكليفاً رسمياً من الأسد ومن الملك سلمان بن عبد العزيز، لرفع طابع المفاوضات إلى أعلى مستوى ممكن. وخلال الأسابيع الماضية بدأت، تحت رعاية روسية، عملية فتح القنوات الأمنية لاستطلاع إمكانية تحقيق ما تحدث عنه بوتين. وتم تكليف اللواء علي المملوك، رئيس مكتب الأمن القومي، بمباشرة تلك اللقاءات، التي انعقد أولها في موسكو، فيما كلف الملك سلمان، على ما يرجّح مسؤول امني عربي كبير، بتمثيله في تلك اللقاءات، واحداً من رجال استخبارات المملكة عمل في الماضي مع اللواء المملوك في مرحلة الانفراج السعودي ـ السوري، في العقد الماضي.
ويقول مصدر مطلع إن المسؤول الأمني السوري الكبير يقوم برحلات متواصلة للتنسيق مع موسكو، منذ أسابيع، والعمل على تحديد بعض إجراءات الثقة. وقد تكون من بين المؤشرات في تقدم عمل القناة المفتوحة هدنة مصطلحات في وسائل الإعلام السورية، والفضائيات التي تملكها السعودية. وخلال الأسابيع الماضية بدأ الأتراك الاهتمام بالعرض الروسي، وأوفدوا إلى موسكو من يحاول الاطلاع على تفاصيل العملية.
وفي تقدير مصدر سوري مطلع إن حصيلة اللقاءات الأولى تدل على وجود استعداد سعودي لفتح صفحة جديدة مع سوريا واليمن عبر موسكو.
ويقول مصدر غربي موثوق إن دمشق استقبلت في الثالث من تموز الحالي جنرالاً من الجيش التركي، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في سوريا، في نطاق الاتصالات التي بدأت تتطور لاستطلاع إمكانيات التعاون ضد «داعش»، والتقدم نحو اقتراح بوتين.
وجاء اللقاء خلال الأزمة التي اندلعت بعد انتصار الأكراد في تل أبيض، واحتشاد وحدات عسكرية تركية على الحدود مع سوريا والتهديد بدخول منطقة جرابلس ـ منبج التي يسيطر عليها «داعش» إذا ما حاول الأكراد التقدم نحو هذا الممر الحيوي لوصل منطقة عفرين، التي يسيطرون عليها، بمنطقة عين العرب (كوباني) ورسم ملامح كيان كردي محتمل.
وبات واضحاً أن التحالف بالدم، الذي يراهن عليه الروس، بات يتقدم بسرعة اكبر من التحالف بالسياسة، وبات يدفع نحو توحيد الجبهات ضد «داعش». وقد اكتسب الاقتراح الروسي مصداقية اكبر في الأيام الأخيرة، مع العملية الانتحارية التي وقعت في سوروتش التركية، والحديث عن خلايا «داعشية» نائمة، من ثلاثة آلاف تركي. وغني عن القول إن عودة الآلاف من السعوديين من سوريا إلى موطنهم، وتجنيد الآلاف في الداخل السعودي، لعمليات قادمة، يدق ساعة الصفر لانتقال العدوى والتهديد الإرهابي إلى الداخل السعودي.
وجلي حتى الآن، أن العرض الروسي في ساعاته الأولى، بدا كمحاولة لترميم المحور السني في المنطقة باستبعاده من العرض الجانب الإيراني، خصوصاً أن إيران تشكل، إلى جانب الولايات المتحدة، في العراق وسوريا، والجيش السوري والأكراد في سوريا، احد أركان التحالف غير المعلن، لمكافحة الإرهاب و «داعش». ولن يقيض لأي تحالف أن يعمل بفعالية ضد «داعش»، من دون مشاركة إيران وسوريا. ويمكن فهم ذلك بأنه محاولة لطمأنة السعوديين في المرحلة الأولى، وانتظار أن تنضج شروط ضم الإيرانيين إلى تلك العملية. كما أن أي تطوير للمشاركة السورية في أي تحالف يضم هذه الدول، وخصوصا السعودية، لن يتم من دون تنسيق مسبق بين دمشق وطهران، ما يعد أيضا احد الرسائل الإيرانية ـ السورية تجاه الرياض، بضمانات روسية.
ويتقاطع العرض الروسي، مع جهد ديبلوماسي دولي يقوم به المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا لإطلاق عملية جنيف قبل نهاية العام الحالي. ويحاول الروس انتهاز عملية جنيف لتحويل البيان، الذي صدر في 30 حزيران العام 2012، إلى قاعدة لإطلاق التحالف ضد الإرهاب. ويتجه دي ميستورا إلى تقديم تقريره الجديد إلى مجلس الأمن الدولي، الأسبوع المقبل، بعد تضمينه نتائج مشاوراته، وفي توقيت يتزامن، مع الاتفاق النووي الإيراني ـ الأميركي، والرهان على افتتاحه مرحلة من التسويات والانفراجات في سوريا واليمن، بشكل خاص، وضم طهران إلى مجموعة العمل الدولية حول سوريا، التي صاغت بيان جنيف، بعد سقوط كل الاعتراضات الأميركية والفرنسية والبريطانية على تلك المشاركة، وهو أول نتائج اتفاق فيينا. وكان دي ميستورا قام بتأجيل تقديم تقريره إلى مجلس الأمن من حزيران حتى نهاية تموز، منتظرا أن تصب نتائج الاتفاق الإيراني ـ الأميركي في سلة الحل السوري.
وتبعا لهذا الهدف، تتضمن الخطة الجديدة لدي ميستورا قيام مجموعة العمل الدولية الجديدة التي تضم إلى أعضاء مجلس الأمن الخمسة والأمم المتحدة، إيران وتركيا ومصر والسعودية، بتحرير ملحق بالبيان، يصادق عليه مجلس الأمن، ويتضمن توسيعا في البنود التي تدعو في متن البيان إلى مكافحة الإرهاب، وتحديث هذه الفقرة، واعتبارها أولوية.
وكان مؤتمر «جنيف 2» انتهى إلى فشل كبير، بعد دخوله في أنفاق النقاش حول لمن تكون الأولوية: مكافحة الإرهاب أو الحكومة الانتقالية. وسيكون بوسع أي مفاوضات مستقبلية حول سوريا أن تحظى للمرة الأولى، بقراءة روسية ـ أميركية، لمضمون بيان جنيف، انطلاقا من التفاهم على أولوية مكافحة الإرهاب، وهو ما عطل سابقاً العملية السياسية. كما تنسحب تلك القراءة على تفاهمات كاملة، تتعلق ببقاء الأسد في السلطة، كترجمة لتقدم مكافحة الإرهاب على ما عداه.