نزيف القيادات يتواصل داخل “جبهة النصرة”، وآخر فصوله القرار الصادر بفصل أحد مؤسسيها السبعة الأوائل أبو محمد صالح الحموي، مع تسريبات مدعمة بمعطيات سابقة بأن قرار الفصل شمل أيضاً من يمكن اعتباره أشهر قادتها إعلامياً، والمقصود العراقي أبو ماريا القحطاني، فضلاً عن ثبوت ما نشرته “السفير” قبل أشهر حول انشقاق القائد العسكري العام أبو سمير الأردني وانضمامه إلى تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”-“داعش”.
ونشر العدد العاشر من مجلة “دابق”، التي يصدرها باللغة الانكليزية الجناح الإعلامي في “داعش”، مقابلة طويلة مع الأردني تضمنت الكشف عن أسرار وحقائق، جعلت من المقابلة وثيقة بالغة الأهمية وشهادة نادرة حول خفايا الكواليس “الجهادية”.
وبالرغم من أن القيادي أبو محمد صالح الحموي، المعروف على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” باسم “أس الصراع في الشام” غير معروف إعلامياً بصفته القيادية، إلا أن قرار فصله يعتبر سابقة خطيرة تشير إلى مدى الانقسام الحاصل داخل “جبهة النصرة”، وتأثير التجاذبات بين تيارات داخلها على مصير قادتها.
ولا يقتصر سبب ذلك على كون الحموي أحد المؤسسين السبعة الأوائل، الذين دخلوا بصحبة أبي محمد الجولاني إلى سوريا، نهاية العام 2011، لوضع اللمسات الأخيرة على تشكيل “جبهة النصرة” والانفصال عن “حركة أحرار الشام” حيث كان غالبية كوادرها منضوين تحت جناح الحركة بهدف التخفي والتمويه. بل النقطة الأهم هي أن القرار صدر بفصل الحموي من التنظيم، وليس بمجرد عزله من منصبه حيث كان يشغل منصب “أمير حماه وعضو مجلس الشورى”. فإذا كانت قيادة “النصرة” غير قادرة على احتواء مؤسسيها، وقبول الاختلاف معهم، فكيف لها أن تطرح نفسها باعتبارها مشروعاً سنياً يشمل المنطقة بأسرها؟.
ويزيد من خطورة القرار، ما رافقه من تسريبات بأن الفصل لم يقتصر على الحموي فحسب، بل شمل أيضاً أبا ماريا القحطاني الذي كان يشغل منصب المسؤول الشرعي العام (عُزل منه في تموز الماضي وعيّن مكانه الأردني سامي العريدي) و “أمير المنطقة الشرقية” بالإضافة إلى عضو مجلس الشورى. ويعتبر القحطاني من أشهر قادة “جبهة النصرة” وأكثرهم بروزاً خاصة أثناء الاقتتال في دير الزور، وهو يقوم حالياً بدور المنظر “الجهادي” ويشتهر بتحريضه المستمر على وجوب قتال “داعش” وتطهير صفوف “المجاهدين” من خلاياه النائمة.
وقد سبقت هذه التسريبات، غير المؤكدة حتى الآن، العديد من المعطيات حول انفصال القحطاني عن الجبهة. وكانت “السفير” أشارت في تقرير منشور في كانون الأول الماضي إلى أن “القحطاني لم يعد يرتبط بالنصرة إلا بالاسم فقط ويعمل لحسابه الخاص”، وأنه “تلقى مبلغاً مالياً من جهة خارجية، وبدأ بشراء السيارات وتخزين الأسلحة”.
وبعد غياب استمر حوالي عام، اختفت خلاله أخبار الرجل وتضاربت الأنباء حول مصيره، ظهر القائد العسكري العام السابق وعضو مجلس الشورى في “جبهة النصرة” أبو سمير الأردني من خلال مقابلة صحافية أجرتها معه مجلة “دابق” التي تصدر عن تنظيم “داعش”. وكانت “السفير” انفردت في تشرين الثاني الماضي بنشر خبر أين اختفى القائد العسكري لـ “جبهة النصرة”؟ تضمن الكشف عن مصير أبي سمير الأردني وتأكيد انشقاقه عن “جبهة النصرة” وانضمامه إلى “داعش”، مفصحة للمرة الأولى بأن أبا سمير الأردني هو نفسه القيادي أبو أنس الصحابة (ويعرف باسم مصطفى عبد اللطيف صالح) الذي شغل منصب “أمير جبهة النصرة في دمشق”، وورد اسمه في اعترافات الخلية التي تولت مهمة ارتكاب جريمة اغتيال الشيخ العلامة محمد سعيد رمضان البوطي في مسجد الإيمان بدمشق. كما نشرت “السفير” بعد ذلك تقريراً تحدث عن تولي الأردني مهمة قيادة العمليات العسكرية لـ “داعش” في القلمون الشرقي. وقد جاءت المقابلة الصحافية لتؤكد مجمل هذه المعلومات، ولكن الأهم أن القيادي السابق في “جبهة النصرة” قرر الكشف عن العديد من الأسرار والحقائق حول قيادة جماعته السابقة وموقفها من بعض الجماعات الأخرى.
وقد يكون أخطر ما قاله الأردني هو الشهادة التي نقلها عن زعيمه السابق أبي محمد الجولاني بأنه وصف “أحرار الشام” بأنهم “صحوات المستقبل، ولكن الدولة استعجلت قتالهم”. كما نقل عن عضو “مجلس الشورى رئيس اللجنة الشرعية في جبهة النصرة” أبي عبدالله الشامي عن “حركة أحرار الشام” أيضاً بأنها “مشروع حماس المقبل” في إشارة إلى حركة “حماس” وعدم تطبيقها شرع الله في غزة رغم تمكنها على الأرض. مع العلم أن شقيق أبي عبدالله الشامي كان يشغل منصب نائب “أمير أحرار الشام العام” أبي عبدالله الحموي، وقتل معه في حادثة القتل الجماعية أواخر العام الماضي.
ولا غرابة في مثل هذه الشهادة، رغم أن ظاهر الحال يناقضها، خاصة لجهة التحالف العسكري القائم بين الطرفين. ولكن من يعرف تاريخ العلاقة بينهما وكيفية الانفصال أواخر العام 2011 وما تبعه من حساسيات كبيرة، تخللها للمرة الأولى الحديث داخل أوساط “الجهاديين” عن “صحوات الشام”، يمكنه أن يتبين حجم الخلافات الكامنة والتي من الممكن أن تنفجر في أي لحظة.
والأمر الثاني الذي لا يقل خطورة عن الأول، هو تأكيد الأردني على أن زعيم “القاعدة” أيمن الظواهري أرسل ثلاث رسائل إلى الشام، اثنتين إلى “أحرار الشام” وواحدة إلى الجولاني “وكان مضمون الرسالة أن الظواهري يدعو جبهة النصرة للانضواء تحت الجبهة الإسلامية، وأنه يستنكر عدم الانضمام لهذا التجمع، فسألته (أي الجولاني) حينها عن ردّه فقال: أنا لن أوافق على هذا إلا بشروط، قلت له: وما هي؟ قال: أن يخرج زهران علوش وجيش الإسلام من هذا التشكيل”. وبحسب الأردني كان الشرط الثاني أن يكون له تمثيل في الجناح السياسي لـ “الجبهة الإسلامية” وألا يحتكره قائد “أحرار الشام”، وهو ما اعتبره الأردني ميلاً من الجولاني لفتح حوار مع جهات إقليمية ودولية اقتداءً بحركة “طالبان”.
كما فضح الأردني ما يمكن اعتباره تلاعباً من قبل الجولاني بزعيمه الظواهري، وعدم استشارته في بعض القرارات المصيرية، وذلك بالرغم من محاولة الجولاني دائماً الظهور بمظهر المطيع لزعيمه والمتبع لأوامره. ولكن يبدو أن هذه الطاعة العمياء لا تتعلق إلا بعدم استهداف الدول الغربية كما قال في مقابلته الأخيرة مع “الجزيرة”، حيث عزا عدم الاستهداف بصدور أوامر من الظواهري بذلك. ولكن الجولاني لم يجد مبرراً لاستشارة “زعيمه” في قرار الإعلان عن “الإمارة” في رمضان الماضي، حيث نقل الأردني عن مندوب الظواهري في “جبهة النصرة” (غير معروف الاسم) أن الجولاني لم يستشره بموضوع الإمارة، واكتفى بدعوته إلى سماع الخطبة التي قال أنها تتضمن “شيئاً عظيماً”.
وقد يكون هذا التجاهل من قبل الجولاني لمندوب الظواهري هو ما دفع الأخير إلى الانشقاق عن “جبهة النصرة” والانضمام إلى تنظيم “الدولة الإسلامية”، في خطوة من شأنها أن تلقي المزيد من الأضواء على طبيعة العلاقة داخل “القيادة المصغرة” في “جبهة النصرة” ونوعية العلاقات التي تربطها مع قيادة خراسان. وربما لا تنتظر مجلة “دابق” وقتاً طويلاً قبل إظهار مندوب الظواهري في مقابلة صحافية يفضح فيها المزيد من الأسرار والحقائق.
ويبدو أن نزيف القيادات في “جبهة النصرة” سيستمر ولن يتوقف بسهولة، فمن ذلك القرار الصادر عن “قاطع حماه” بفصل حوالي 30 عنصراً، بينهم قيادات، بتهمة التعاطف مع “داعش” ورفض القتال ضده. ولكن الأهم هو سوء العلاقة بين “جبهة النصرة في الشمال”، والتي يقودها الجولاني، وبين “جبهة النصرة في الجنوب” والتي يقودها الأردني أبو جليبيب، حيث تؤكد بعض المعطيات أن العلاقة بين الرجلين ذاهبة نحو مزيد من الانحدار، وما لم يتم احتواء تداعيات الخلاف بينهما فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى المزيد من حالات الانشقاق أو الفصل في صفوفها.
(عبدالله سليمان علي ـ السفير)