العماد ميشال عون مقتنع تماماً بثلاثة أشياء منذ الثمانينات الى اليوم. إنه الأكثر شعبية بين المسيحيين. انه الأكثر وطنية بين اللبنانيين. وثالثاً، والأهم، أنّ أحقّيته لا يستمدّها من شعبيته، بل تعكس شعبيته أحقّيته. مصدر أحقّيته حقيقته، ذاته، ولذا ليس سهلاً توريث الحالة العونية، لأنها حالة خلوديّة بامتياز. 

قناعات عون الثلاث هذه يقتنع بها كثير من الناس، لكن ثمة أيضاً من أيّده في وقت من الأوقات، ومن يؤيّده الآن ولم يكن يفعل من قبل، من دون المشاركة في هذه القناعات الثلاث، جميعها. هناك اذاً تأييد سياسي يفرضه السياق أو الظرف وتأييد وجودي يتعالى على أي سياق. يبقى أن ثمّة من لا يؤيد عون، ان يكن على الصعيد المسيحي أو على الصعيد الوطني، في الإقليم أو على مستوى العالم، ومن لا يؤيده، وخصوصاً من لا يؤيد تولّيه للمنصب الأول في الدولة اللبنانية، هم أناس من أصناف عدة، وهم تغيروا من جيل الى جيل، المشترك بينهم أنهم لم يتيحوا له البقاء في قصر بعبدا يوم كان رئيساً لحكومة موقتة مناط بها التحضير لانتخاب رئيس بعد الفراغ الدستوري الذي أعقب انتهاء عهد الرئيس أمين الجميّل، ولم يجعلوه رئيساً يوم رجع من سنوات النفي ولم يكن في عجلة من أمر التمديد لإميل لحود، ثم يوم حل الفراغ الدستوري مجدداً بعد لحود، ثم يوم تمادى الفراغ الدستوري منذ عام ونيف، بسبب تطيير العماد عون و«حزب الله« جلسات النصاب، باشتراطية «عون أو لا أحد« العونية، وبالرياء الرئاسي المفضوح عند «حزب الله«، لكن أيضاً باستسهال لبناني عام لفكرة السُبات المزمن، و«تمضية الوقت« في ولاية معقودة اللواء للفراغ والشغور، والاطمئنان أكثر من اللازم للاستقرار القدريّ الهش والسريع العطب، ما أعطى عون حجّة اضافية لتسويق نظرية «ابتلاع« رئاسة الوزراء صلاحيات الرئيس، الرئيس الذي لا يجد عون حاجة له ان لم يكن هذا الرئيس هو عون نفسه. 

اذاً ما الذي يمكن للعماد عون فعله اذا كان وفاؤه لقناعاته الثلاث، بأنه الأكثر شعبية بين المسيحيين، والأكثر وطنية بين اللبنانيين، وبأن الحق منه وفيه، لم يتح له لا بهذه الحيلة ولا تلك بلوغ الرئاسة؟ وعون بخلاف ما يشيعه أخصامه له في الدهاء السياسي باع طويل، انما في كنف قناعاته الثلاث كما أشرنا اليها. وهذه القناعات ليست قوتها بذاتها، انما في تقاطعها مع وقائع انتفاء التعاقد الاجتماعي بين اللبنانيين، وكون «الميثاقية« غطاء تعويضياً لهذا الانتفاء، بدلاً من أن تكون منبثقة عن تعاقد اجتماعي واسع وواضح وحيوي ومتين. 

ما العمل اذاً بعد كل هذه السنوات من وفاء عون لقناعة بأنه الأفضل والأصلح؟ يمكنه مثلاً أن يعلن نفسه رئيساً للجمهورية. هكذا، ومن طرف واحد، بلا حاجة لانتخابات ومنّة أحد. في ختام الاجتماع الدوري لتكتله النيابي يخرج الى الناس ويعلن أن التكتل وافق على أنه رئيس هذه البلاد ويروّج للأمر على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المهرجانات الصيفية وحلقات الدبكة. لم يبق لعون غير هذا الحل. طبعاً، يمكنه أن يعمل بعدها على فرض هيبته الرئاسية المعلنة من طرف واحد على بقية اللبنانيين، ويبقى أن يستخدم عصاه السحرية لإقناع كبرى العواصم بشرعيته. 

له أن يكاتب حكام العالم ويقول لهم، لما كنت أنا، فلان الفلاني، الأكثر شعبية بين المسيحيين، والأكثر وطنية بين اللبنانيين، وأقرب رجال الكوكب الى الحق، وصاحب خارطة الطريق لوأد الإرهاب الى الأبد، فأنا رئيس لبنان، والمرغوب اعترافكم بذلك والتضحية بامبرياليتكم بعض الشيء. انه الخيار الأكثر عقلانية الذي يمكن، وينبغي، أن يبادر اليه عون اليوم. 

طبعاً، يمكنه ارفاق اعلانه هذا الى قادة العالم، برسوم بيانية عن استطلاعات الرأي، وشهادة من مؤرخَين أو ثلاثة وعالم نفس، «وكفى الله المؤمنين شرّ القتال«. 

تبقى هذه الخطوة الشجاعة، بأن يعلن عون نفسه رئيساً أو ملكاً، أو دوقاً أو امبراطوراً، وما اشتهاه من ألقاب، في بلد يتلقّب كل نفر فيه بما يشتهيه، أكثر تماسكاً من الناحية المنطقية مما اقترحه عون وفريقه في الأيام الأخيرة. فما علاقة تعيين قائد جديد للجيش مثلاً بمعدّلات الشعبية بين المواطنين، مسيحيين كانوا أو مسلمين أو يهوداً؟ وما مغزى تخيير الناس بين «إما الشراكة وإما الفيدرالية«؟ وهل الفيدرالية أساساً تلغي الشراكة؟ هل ان البلدان التي ينتظم أمرها بالفيدرالية، كألمانيا أو الولايات المتحدة أو روسيا أو الهند أو باكستان هي بلدان تقوم وحدتها الوطنية على غير مفهوم الشراكة؟ صحيح أن «رُهاب الفيدرالية« يقوّض مساحة النقاش في هذا البلد، لكن ماذا عن استهلاك المفهوم على هذا النحو؟ صحيح أنّه ثمّة تحدّيات وجودية استثنائية تتعلّق بالمسيحيين في لبنان والمشرق، فهل إنّها تبرّر المخاطرة بتمادي الفراغ الرئاسي في بعبدا؟ أليست هذه «ثقة زائدة« من العماد عون بغير المسيحيين، وفقاً لمنطقه «المسيحي« المغالي هذا؟! 

فليعلن الجنرال انه، ولما كان الأكثر شعبية ووطنية وأحقية، فإنه رئيس البلاد المختار، انتخبه زيد أو عمرو أو لم ينتخبوا. أساساً كل ما يقوله أنه لا داعي للانتخاب الا بعد الاتفاق عليه كمرشح وحيد. اذاً فليتجاوز الجنرال الشكلانية الدستورية البرجوازية. أليس لنا في أبي بكر البغدادي مثالاً قبل أكثر من عام، عندما أعلن نفسه الخليفة على كوكب الأرض مرة واحدة؟

 

(وسام سعادة)