تحت قوس المحكمة العسكريّة وقف أحد الشبّان الطرابلسيين ليروي تفاصيل رحلته من مدينته إلى مطار تركيا فسوريا، وتحديداً “مضافي الراغبين بالانتماء إلى جبهة النصرة” في كسب، حيث تلقى دورات شرعية وعسكريّة قبل أن يتمّ فرزه للقتال في حلب تحت إمرة “أبو يوسف التركي” (قتل في المعارك).

لم يكن الشاب العشريني يفكّر سابقاً بأنّه سيكون أحد المنضوين في صفّ دعم الثورة السوريّة، ولكن تردّد أحد أصدقائه على محلّه شجّعه لـ “نصرة المظلومين”، فترك عائلته ومحل المصاغ الذي يملكه وهاجر إلى ساحات القتال، ليعود بعد 20 يوماً متفاجئاً مما يحصل هناك. هرب زهير هـ. بعد أن وضع المسلّحون السكين على رقبته “لأنني رأيت أنّ من يدّعون القتال تحت راية الإسلام هم من يقتلون المسلمين”.

عاد زهير، فيما بقي كثيرون في “ساحات الجهاد” أو عادوا جثثاً هامدة.

هذه واحدة من الروايات التي سمعت بالأمس، داخل المحكمة العسكريّة، حيث كان برنامجها مزدحماً باستجواب شبّان دخلوا إلى سوريا للقتال تحت جناح “النصرة” أو تنظيم “داعش”. غالبيّة هؤلاء الموقوفين أكّدوا أنّه غرِّر بهم وقرّروا العودة لأنّهم اكتشفوا أن ما يسمعونه شيء وما يجري في الداخل السوري شيء آخر.

من غرّر بهم؟ من حمّس الشبّان على ترك عائلاتهم والمضي إلى خلف الحدود في سبيل الله؟

لكلّ واحد من الموقوفين شخص كان يقف خلف السّتار لتشجيعه على القتال. منهم من ذكر اسم عبد القادر ق. (يملك محلاً في سوق العطارين في طرابلس)، وآخر “أبو الخطّار” (لبناني) و “أبو الفضل” (هو شاكر ش.)، فيما لفت آخرون الانتباه إلى أنّ ظروفهم العائليّة جعلتهم يذهبون نحو الجرود والسير خلف التنظيمات الإرهابيّة.

ولا ينكر البعض أنّ عدداً من المشجعين صاروا اليوم “فوق الريح” بعد أن انضووا في مهنة “إرسال المقاتلين” مقابل المال، فيما هم يقبعون خلف القضبان.

ولكنّ وحده الشيخ أسامة عنتر سمّى الأشياء بأسمائها. الشيخ المكلّف من دار الفتوى بأن يكون إمام “مسجد التقوى”، والمقرّب من رئيس “هيئة علماء المسلمين” الشيخ سالم الرافعي، كان له (قبل توقيفه في تشرين الثاني الماضي) دور بارز في إرسال المقاتلين إلى سوريا.

المهمّة الموكلة إلى الشيخ المعمّم هي تسجيل أسماء الراغبين في القتال، ثمّ تزكيتهم لدى “النصرة” أو “داعش” عبر التواصل مع تلميذه السابق والقيادي في “الدولة الإسلامية” حالياً شاكر ش. الملقّب بـ “أبو الفضل”، ثمّ تزويد الأشخاص بأرقام الهواتف التي يحتاجونها بسفرهم إلى تركيا، فإدخالهم إلى سوريا عبر مهرّبين.

هذا جزء ممّا اعترف به عنتر، أمس، أمام “العسكريّة”، من دون أن ينكر أنّه كان مقرّباً من “جبهة النصرة” بادئ ذي بدء، وأن الشيخ تركي بن علي (قيادي في داعش)، الذي كان يتواصل معه عبر الانترنت منذ العام 2003 حاول أن يستميله لمبايعة “الدولة الإسلاميّة”، من دون أن يفلح في تجنيده، “وذلك بعد أن اكتشفت أن التنظيمين يكفّرون ويقتلون”.

ولم يكن رئيس المحكمة العميد الركن الطيار خليل ابراهيم بحاجة إلى توجيه أكثر من سؤالٍ واحد لعنتر، حتى فضح “أبو ابراهيم” المستور، مؤكداً أنّه “شخصياً أرسلت أكثر من 15 مقاتلاً إلى سوريا، وقمت بأعمال لنصرة الثورة”.

فقد أكّد الموقوف أنّ “هيئة علماء المسلمين” هي من كلّفته بتسجيل الأسماء وزوّدته بأرقام هواتف المسلحين في “داعش” و “النصرة” ليزوّدها للراغبين في الذهاب، بالإضافة إلى أن مشايخها يملكون أرقام معظم المهرّبين المتواجدين على الحدود السوريّة ـ التركيّة لتسهيل مهمّة المسافرين بحراً أو جوّاً.

كما أشار عنتر إلى أنّ رئيس “الهيئة” السابق والعضو الحالي سالم الرافعي هو أوّل من أرسل المقاتلين إلى سوريا، وتحديداً إلى القصير، وهو كلّفه بتسجيل أسماء الراغبين. وبالرغم من أنّها ليست المرّة الأولى التي يؤكّد فيها موقوفون أن سالم الرافعي هو من شجعهم على الذهاب إلى سوريا والقتال هناك، إلا أنّ شهادة عنتر في هذا الإطار تكون أكثر صدقاً على اعتبار أنّه كان من المقربين منه.

وذهب عنتر أبعد من ذلك، بقوله إن “هيئة علماء المسلمين خطّها الحقيقي هو خطّ داعش والنصرة، وأنّ كل ما حصل في طرابلس كان بسببها”. وهنا ثارت ثائرة عدد من المحامين، ليتوجّه إليه العميد ابراهيم بالتأكيد عليه بأن كلامه يدوّن في محضر الجلسة، فيما سأله ممثل النيابة العامة القاضي هاني حلمي الحجّار: “هل ما تقوله هو تحليل واستنتاجات أو مبنيّ على أدلة؟”، ليردّ عنتر: “إقرأوا بيانات الهيئة جيداً فهي واضحة، وقد ذكرت النصرة في بياناتها. وتذكّروا أن المظاهرات التي كانت تخرج في طرابلس كانت بدعوة من الهيئة والمشاركون بها كانوا يحملون رايات النصرة وداعش وينادون بهذين التنظيمين. ولو كانت الهيئة غير راضية بذلك، لما استطاع أحد المشاركين التلويح بهذه الرايات”.

هذا ليس كلّ شيء، وإنما كشف عنتر أيضاً أن عدداً كبيراً من مشايخ “هيئة العلماء”، وحتى ممّن هم مكلفون من دار الفتوى، كانوا أعضاء في مجموعات تواصل على “واتس اب” يشارك بها العديد من المسلحين وقيادات في “داعش” و”النصرة” كشاكر ش. و “أبو اليزيد الأردني” وغيرهم.. وذلك بهدف إرسال المقاتلين إلى سوريا.

أما بشأن تزكيته للأشخاص، فأوضح الشيخ الموقوف أنّ تزكيته هي فرديّة وليست تنظيمّة، “إذ أنّ شاكر ش. كان تلميذي وأنا أبدي رأيي عندما يتصل بي إذا كان الشخص الذي ينوي الذهاب للقتال هو على خلق ودين”، مؤكداً “أنني لم أبايع داعش، فالمبايعة الشرعية أو الميدانيّة تتطلّب الذهاب إلى سوريا، وأنا لم أذهب قط”. ويشدّد على “أنني أخطأت عندما كنت متعاطفاً مع النصرة وداعش”، ومحملاً مسؤولية كلّ ما جرى في طرابلس إلى “الهيئة” بعد أن أضحت “البيئة الطرابلسيّة بغالبيّتها تسير على خطّ داعش والنصرة”.

ولدى سؤاله عن مصدر المال الذي كان يدخل إلى “الهيئة” باعتبار أن نفقات الذاهبين إلى سوريا كبيرة ولا يمكن أن يتحمّلها أشخاص، ضحك عنتر لتكون ضحكته أصدق تعبيراً، قبل أن يقول: “ماذا أقول؟ إن بصقت فوق عليّ وإذا بصقت تحت عليّ. ولكن المال الذي يأتي إلى الهيئة ليس من الداخل حكماً، وإنّما من الخارج”.

ويؤكّد الشيخ الموقوف أنّ “لا خلاف شخصياً مع هيئة العلماء، وإنّما أنا أقول الحقيقة كما هي موجودة”.

وقد اكتفى العميد ابراهيم باستجواب عنتر واثنين من الموقوفين في القضيّة نفسها (الانضواء في تنظيم إرهابي والقتال في سوريا) ليرجئ الجلسة إلى 24 آب المقبل لاستكمال استجواب الموقوفين الخمسة الباقين.

التحق بـ “داعش” لإغاظة خطيبته!

“في حال لن نعود إلى علاقتنا سويةً، سوف أذهب إلى جرود عرسال وأنضمّ إلى تنظيم داعش”.. بهذه البساطة، قرّر حسين الجباري أن يهدّد خطيبته ووالدته كي تشفقا عليه. وعندما لم يلقَ الشاب، الذي يعمل في مهنة ميكانيك صناعي، جواباً شافياً من الاثنتين، اتصل بابن عمّ والده الملقّب بـ “أبو أحمد” الذي أقلّه بدراجة نارية إلى الرهوة في جرود عرسال.

وفي هذا المقرّ الذي كان يشرف عليه “أبو عبد السلام السوري” (أمير داعش في القلمون)، مكث مع صديقه القديم أحمد الأطرش الملقّب بـ “نسر عرسال” (كان حينها مصاباً بعينه من جراء القتال) وخبير المتفجرات “أبو قتادة” و “أبو الدجانة الطرابلسي” ومصطفى ص. وبلال ع. بالإضافة إلى عسكري منشقّ من دون أن يستطيع التعرّف عليه بسبب القناع الذي كان يضعه الأخير على وجهه بشكل دائم.

وأشار الجباري، صديق الطفولة لعمر الأطرش، إلى أنّه خضع لدورات عسكريّة لا سيّما على بندقية “إم 16″ قبل أن يعده “أبو قتادة” بأنّه سيدرّبه على المتفجّرات قريباً. ولكن قصة الشاب العرسالي لم تكتمل فصولها، إذ أن والدته أرسلت له رسالة تطالبه فيها بالعودة، وفق ما قال، ليعود أدراجه إلى بلدته هرباً عن طريق أحد أقربائه الذي يعمل راعياً في المنطقة.

وقد نفى الموقوف منذ تشرين الأول الماضي، بعض ما قاله في إفادته الأوليّة بأن يكون قد بايع أبو بكر البغدادي أو أنّه التقى “أبو عبد السلام السوري”. كما أنكر أن يكون مشاركاً في عمليّة غير ناجحة قادها “نسر عرسال” لخطف أحد قضاة المحكمة العسكريّة.

ولاحقاً، قرّرت هيئة المحكمة العسكريّة الدائمة برئاسة العميد الركن الطيّار خليل ابراهيم للجباري الأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات وتجريده من حقوقه المدنيّة وإلزامه تقديم بندقيّة حربيّة.

(لينا فخر الدين ـ السفير)