في المؤتمر الذي عُقِد في إحدى دوَل أوروبا للبحث في جوانب من العقل الذي قاد إلى إحياء «الخلافة الإسلامية» وسُبل مواجهته وإجهاضه، لم يأتِ المنتدون من هويّات وجنسيات مختلفة على ذِكر لبنان إلّا عندما طرحَت المتغيّرات الجغرافية المحتملة لدوَل المنطقة وحدودها. فكانت قراءةٌ تدعو إلى انتخاب رئيس للجمهورية لتوحيد موقف لبنان الرسمي بالحدّ الأدنى. فما الذي حصَل؟

كان المنتدون من جنسيات إيرانية وعربية وغربية وأوروبية، ديبلوماسية وعسكرية ومستشرقون يناقشون في المتغيرات الجغرافية المحتملة نتيجة التطوّرات المأسوية في العراق وسوريا، ومصير الحدود الدولية التي كرَّسَتها اتفاقية «سايكس بيكو» والتي صَمدت 99 عاماً إذا ما احتسِبَت هذه السنوات منذ الوصول إلى هذه الاتفاقية السرّية بين تشرين الثاني 1915 وآذار 1916 بين ديبلوماسيين فرنسي وبريطاني بارَكَته الإمبراطورية الروسية في البداية، وتاريخ اجتياح الدولة الإسلامية أجزاءَ من العراق وسوريا وإلغاء الحدود المعترَف بها بينهما في تطوّر تزامَنَ مع ظهور مؤسس الدولة أبو بكر البغدادي في 5 تمّوز 2014 داعياً المسلِمين في العالم إلى مبايعته.

في العرضِ التاريخي للمتغيّرات التي شهدَتها المنطقة قبل قرنٍ مِن الزمن، لم يأتِ المنتدون بجديد حيالَ خرائط «سايكس بيكو». وبقيَ الملف اللبناني على هامش المناقشات إلى أن بدأ البحث في أشكال الأنظمة المتناحرة التي ستفرزها الحرب في العراق وسوريا وسط مخاوف أوروبية وفرنسية تحديداً من ارتسام خطوط تماس ثابتة لكيانات مذهبية سُنّية وأخرى شيعية – عَلوية، عزّزَتها قراءتان إيرانية ولبنانية حذّرَتا مِن المسّ بحدود الدولتين لئلّا تتحوّل كانتونات مذهبية تُبرّر التوجّه سريعاً إلى اعتراف دولي بـ»الدولة اليهودية الخالصة».

وعند البحث في خريطة المواقف اختارَ المنتدون التوقّفَ عند قراءة لبنانية رسمية واحدة لِما يَحدث من حوله. فأجمعوا على أنّه وبعد سقوط «إعلان بعبدا» المعترَف به من جانب الأمم المتحدة والاتّحاد الأوروبي والجامعة العربية لم يعُد للبنان موقفٌ واحد موَحَّد.

فهو إعلانٌ تبنّى حيادَ لبنان عمّا يشهده محيطه وعودة المتدخّلين في الحرب السورية إلى لبنان خصوصاً المقاومة التي عليها العودة إلى واحتها اللبنانية الى جانب الجيش والشعب، عملاً بالثلاثية المعروفة والتي أصيبَت بخَللٍ كبير أدّى الى انهيارها بمجرّد أن تركت المقاومة لبنان وذهبَت الى سوريا من دون إذن الجيش والشعب اللبنانيين أو عِلمِهما.

ومرَدُّ الحيرةِ الدولية في قراءة موقفٍ لبنانيّ موحَّد إلى أنّه ومنذ أن انتهَت ولاية آخر رئيس جمهورية للبنان العماد ميشال سليمان الذي أبقى التمثيلَ اللبناني موحّداً ولو في الشكل دون المضمون، برزَت الإنقسامات على حدّتِها، بين موقع رئاسة الحكومة التي قادت تياراً يرفض كلّ أشكال الإتصالات مع النظام السوري وعدم التعاون مع جيشه عمَلاً بالقرارات الدولية التي حظرَت التعاون معه.

ومناصري النظام السوري يتقدّمهم «حزب الله» وحلفاؤه الذين جنّدوا ما لديهم من قدرات عسكرية وبشَرية للدفاع عن النظام. وما بينهما مواقف وزارة الخارجية التي تبَدِّل مواقفها حسب مواقع المؤتمرات.

فعلى رغم التزامها مضمون «بيان جدّة» الصادر في 11 أيلول 2014 والذي كشفَ عن حلف دولي من 40 دولة تكفّلت بالحرب على «داعش» وتقليص مواردها ووقفِ انتشارها قبل أن ينسحبَ منه تدريجاً على وقع الضغوط التي بُنيت على خلفية أنّ وزير الخارجية التزمَ ما التزمَه هناك من دون العودة الى قرار جامع من مجلس الوزراء فتفهّم المجتمع الدولي مواقفَ لبنان المتردّدة لحماية الحد الأدنى من الإستقرار الداخلي.

ومن دون الإفاضة في التفاصيل، انتهى المنتدون إلى معادلة مبنية على أسئلة عدّة تحمل في طيّاتها أجوبةً واضحة، ومنها:

– ما الذي تريده «داعش» وأخواتها من لبنان الدولة إذا ما بقيَ على الحياد من طرَفي الصراع: النظام ومعارضيه على أشكالهم؟

– ما الذي تريده «داعش» وأخواتها إذا ما عاد «حزب الله» من سوريا وتوقّفَ دعمُه للنظام، سواءٌ تمكّنَ النظام من التقاط أنفاسِه أو سَقطَ فسيّان. ففي الحالتين يكون لبنان قد تجاوزَ مخاطر احتسابه ساحةً إضافية للمواجهة.

– إنّ قوّةَ لبنان في هذه المعادلة تتوقّف على ما يتلقّاه مِن دعمٍ دوليّ رسَم خطوطاً حمراً التقَت عليها الأطراف المتصارعة في سوريا. وبعكس قرارها في المواجهة هناك، شجَّعَت على الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والأمني في لبنان.

وفي الخلاصة انتهَت القراءات إلى ضرورة انتخاب رئيس توافقي للجمهورية يحَيِّد لبنان ويُحيي الموقفَ اللبناني الموَحّد بالحدّ الأدنى الذي كان قائماً قبل الشغور الرئاسي، ليتعزّز الاستقرار الداخلي بحماية دولية لم يحظَ بها لبنان من قبل، ولسَدّ أكبر الأبواب المفتوحة أمام «داعش» وأخواتها باتّجاه لبنان.

(الجمهورية)