هنا البقاع الشمالي. تكتشف أن تلك المنازل المتراصة من عرسال إلى اللبوة مروراً بالنبي عثمان والعين والفاكهة والجديدة ورأس بعلبك وصولاً إلى القاع ثم الهرمل، تعدت التوسع الطبيعي لتصهر بلدات المنطقة، فتغدو بلدة واحدة في مواجهة الخطر التكفيري في الجرود الشرقية.
هنا، تتواطأ الجغرافيا مع الأمن لتطويع السياسة لما فيه مصلحة الناس بعيداً عن مواقف الممسكين بقرار القوى السياسية المتناحرة في طول البلاد وعرضها.
هنا، تلمس مباشرة وعبر أصوات الأهالي أن العيش على بعد خطوتَين من «داعش» و«النصرة» كما في قلب عرسال البلدة، أو على بعد ستة كيلومترات من الجرود التي يحتلونها، كما هو الحال في رأس بعلبك والقاع، ليس تفصيلاً في حياة أهالي المنطقة المتروكين تاريخياً للحرمان.
هنا، يصبح أمن اللبوة مرتبطا بأمن عرسال التي تخرج من بوابتها إلى الوطن. والفاكهة ورأس بعلبك والقاع ليست إلا خط الدفاع الأول عن الهرمل بعد الجيش اللبناني والمقاومين المرابطين عند التخوم.
هنا، يشي استنفار الناس في كل زاوية، بصحوة فرضت نفسها على الجميع منذ «غزوة آب» الماضي، مروراً بمعارك الجيش اللبناني في تلال «الراس» والقاع، ومعها تصدي «حزب الله» للهجوم «الداعشي» على جرود البلدتَين الاخيرتَين قبل نحو عشرة شهور.
هنا يمترس أبناء القرى في خندق الدفاع الثاني بعد الجيش و«حزب الله» واضعين أصابعهم على زناد الدفاع عن منازلهم وعائلاتهم وأطفالهم بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية.
«نحن هنا أبناء المنطقة الواحدة وإن انتمينا إلى تيارات سياسية متناقضة ومختلفة على الساحة الوطنية». هذا هو لسان حال الرجال في قرى التماس من اللبوة إلى الهرمل مروراً بالفاكهة ورأس بعلبك والقاع.
هنا، في متاريس الحراسة الليلية، يُلقي إبن «القوات اللبنانية» و«الكتائب» و«تيار المستقبل» في الفاكهة ورأس بعلبك والقاع ظهرَه الى ظهر إبن البلدة المنتمي إلى «الحزب الشيوعي» و«الحزب القومي» و«التيار العوني» و«تيار المقاومة» (ضمنا سرايا المقاومة)، أما بنادقهم، فلا تعرف سوى اتجاه واحد: الجرود المحتلة.
هنا، يعتبر إبن «تيار المستقبل» في رأس بعلبك أن شهيد «حزب الله» في جرود بلدته هو «شهيدنا ورفيق طفولتنا ومقعد الدراسة»، وهنا يقول إبن «القوات» في القاع إنه وابن الهرمل في خندق واحد للدفاع عن بلدتيهما. وفي موازاة الإثنين، يعيد مقرب من «14 آذار» في المنطقة تحديد الأولويات: «لدينا عدوان هما إسرائيل والتكفيريون، وما عدا ذلك هو خلاف في السياسة».
وحدهم أبناء عرسال المغلوبون على أمرهم، أبناء البلدة التي تركت منذ بداية الأحداث السورية تواجه مصيرها لوحدها، لا حول لهم ولا قوة في مواجهة محتلي بلدتهم من خلايا المسلحين في داخلها، ومن محتلي جرودها في السلسلة الشرقية. لا يخفي أحد من أبناء عرسال العجز عن التعبير عن مواقفهم الحقيقية الرافضة للمسلحين تحت طائلة الاعتداء عليهم قتلاً أو خطفاً أو تهجيراً.
لكن عرسال، وكما عبر لـ «السفير» كُثُرٌ من أبنائها ومن قلبها، أمس، وعلى اختلاف انتماءاتهم، لا تشذ في عمقها عن محيطها على صعيد موقفها من المسلحين «لا نريدهم في بلدتنا ولا في جرودنا». هؤلاء أنفسهم، وبعضهم مقرب من «تيار المستقبل»، يسمون تعاطي عرسال مع وجود «حزب الله» في جرودها لقتال المسلحين بـ «الحياد الإيجابي»، وهو ما ترجم بعدم حمل أي من أبناء البلدة السلاح إلى جانب المسلحين».
طبعاً لا يمكن القول إن أهالي عرسال يؤيدون «حزب الله» خصوصا في ضوء تعاظم الانقسام السياسي والمذهبي الحاد في لبنان، لكن البلدة التي خسرت أمنها ومواردها الاقتصادية وكادت تفقد وئامها التاريخي مع محيطها الطبيعي، والتي شهدت بأم العين اعتداء المسلحين في المخيمات والجرود على أبنائها وعلى الجيش اللبناني والقوى الأمنية قتلاً وخطفاً وذبحاً وإعداماً، تريد الخلاص منهم بأي ثمن وعلى يد أي جهة لبنانية، وإن كانوا يفضلون أن يقوم الجيش اللبناني بهذه المهمة وحده.
وعلى امتداد قرى التماس الجديد بعد تحرير «حزب الله» جرود بريتال ونحلة ويونين ونحو 105 كيلومترات من جرود عرسال المحتلة من «النصرة» وحدها منذ أوائل أيار ولغاية الأمس، عقد أهالي المنطقة العزم على مواجهة التكفيريين. أخرج بعضهم ما يملك من سلاح فردي، اشترى آخرون ما تيسر وفق إمكانياتهم، فيما تسلّم بعض المنضوين في «اللجان المحلية للقرى» ما تيسر من دعم لوجستي سواء من السلاح أو وسائل الاتصال من أحزابهم، ونظموا أنفسهم في مجموعات ووفق مهمات محددة. يؤكد هؤلاء أن دورهم يقتصر حتى الآن على حراسة القرى خلف خطوط الجيش و «حزب الله» في المناطق التي يتواجدان فيها، ولكنهم جاهزون للقتال عند الحاجة إليهم.
وفيما يمر شهر رمضان على غير عادته في عرسال المشهورة بأجوائها الرمضانية عادة، تستمر المعارك في جرود القلمون السوري وفي جرود عرسال بوتيرة تشي بالتحضير لما هو أكبر من القضم التكتيكي المستمر منذ أسابيع.
وفي تحديث لمناطق سيطرة الجيش اللبناني و «حزب الله» في مواجهة محتلي الجرود من «النصرة» و «داعش»، رست بورصة المعارك مؤخراً على تحرير 495 كيلومترا مربعا من جرود القلمون، و105 كيلومترات مربعة من جرود عرسال التي تحتلها «النصرة»، وسيطرة الجيش اللبناني بالنيران على نحو 130 كيلومترا مربعا من الجرد العرسالي المنخفض والأوسط وتحديداً في وادي صورة قبل وادي الرعيان والدبارية والمجر وراس عقبة الجرد وقسم من وادي الزعرور وصولا إلى تخوم سرج العجرم.
وفيما تبلغ مساحة الجرد العرسالي 380 كيلومترا مربعا، منها 105+130 تحت سيطرة «حزب الله» والجيش اللبناني، أي 235 كيلومترا مربعا، يبقى 145 كيلومترا مربعا من جرود عرسال محتلا. وتتوزع هذه المساحة المحتلة على نحو 50 كيلومترا مربعا لم يتم تحريرها بعد من «النصرة» في سرج العجرم ووادي الخيل ووادي المعيصرة وجزء من وادي الزعرور.
في المقابل، يسيطر «داعش» على نحو 95 كيلومترا مربعا من جرد عرسال من الحد مع سرج العجرم إلى خربة داوود ووادي ميرا والمير علي ومرطبيا، وصولاً إلى احتلاله نحو 120 كيلومترا مربعا من جرود رأس بعلبك، ونحو 30 كيلومترا مربعا من جرود القاع. وعليه يحتل تنظيما «النصرة» و «داعش» ما مجمله نحو 300 كيلومتر مربع من جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع.
وقد تمكن «حزب الله» في الساعات الأخيرة من السيطرة على قرنة وادي المغارة في جرد جراجير، وهي متاخمة لمعبر الزمراني بين جرود عرسال وجراجير، وتوازي بأهميتها معبر قرنة شحادي التي تؤدي أيضاً إلى معبر الزمراني. وتكمن أهمية القرنتَين في تمكين من يمسك بمرتفعاتهما من التحكم بمعبر الزمراني بالنيران. ويقع الزمراني حالياً تحت سيطرة «داعش».
والمعركة مفتوحة بعد، لكن ظروف حسمها لمصلحة أهلها قائمة، بشرط توفير المواكبة الفاعلة للعاملين من أجل هذا الهدف السامي.