الصوَر وأفلامُ الفيديو المصوّرة بالهواتف النقّالة، التي تُظهر عمليات تعذيبٍ وحشي يتعرّض لها معتقلون إسلاميّون في سجن رومية، ذكّرتنا منذ أيام بجرعات العنف التي تصلنا أخبارُها وصورها بالتقسيط في لبنان.
ذلك أنه سبق مشاهدَ التعذيب المقزّزة هذه، الشديدة الشبه بمشاهد التعذيب في السجون الأسدية، قتلُ طفلٍ فلسطيني لاجئ من سوريا برصاصٍ طائش أُطلق خلال تشييع أحد عناصر حزب الله. والرصاص، إن في مناسبات التشييع أو عند الإطلالات التلفزيونية لأمين عام الحزب وسواه من "الزعماء" اللبنانيّين، عنفٌ فائض وإرهاب موصوف وضحاياه صاروا كثراً.
وقبل ظهور مشاهد التعذيب ومقتل الطفل بأسابيع، أُعدمت امرأة بنيران زوجها لتلتحق بمجموعة نساءٍ قُتلنَ خلال السنوات الماضية على أيدي الأزواج أو الأزواج السابقين، ولم تصدر أحكامٌ قضائية بحقّ كثرٍ منهم بعدُ، ولم يُصدر نوّاب الأمة بمعسكراتهم السياسية المُتنابِذة تشريعاً واحداً يجرّم فعلهم المروّع على نحو صريح وقاطع.
وقبل كلّ ذلك وأثناءه وبعده، يستمرّ العنف على الحدود اللبنانية السورية وخلفها، ويُشارك في حفلاته وغزواته ألوفٌ من اللبنانيّين لأسبابٍ يرفضها قسمٌ كبير من مُواطنيهِم، ممّن قد يدفعون وإياهم أثماناً باهظة بسببها في المستقبل.
الأخطر ربما من جرعات العنف المتعدّدة هذه، باختلاف أشكالها ومراميها، أن ثمة مدافعين عنها يجدون الذرائع لها. بعضهم مبرّره سياسي أو طائفي ثأري، وبعضهم الآخر "أمنيّ وِقائي"، وثمة من لا يحتاج تبريره الى السياسة أو الطائفية أو "الأمن" لانعدام حضورها أصلاً في الجريمة – قتلُ النساء مثلاً – فيبحث عن مساءلة سلوك الضحية الذي "استجلب" القتل.
هكذا يتعامل لبنانيّون كثرٌ مع العنف المسلّط على بشر من حولهم وكأنه شكلٌ من الأشكال المشروعة للصراع السياسي، أو استباقٌ لمخاطر بهدف تجنّبها، أو انتقامٌ معذور من مُتّهمين بعنف سابق أو موازٍ، أو أخطاء "لا غرابة في وقوعها". كما يتعاملون مع جرائم "أُسريّة" بوصفها شؤوناً خاصة أو قضايا عائلية لا بدّ من تشارك مسؤولّيةٍ بين الجلّاد والضحية في وقوعها.
لحسن الحظّ أن لبنانيّين آخرين يُعلون رفضهم لهذا المنطق البائس والمسلك الوضيع، ويُسقطون كلّ تطبيع مع العنف وممارسيه. ولحسن الحظّ أيضاً أنهم يحاولون الاستمرار في العيش "حياةً طبيعية"، وأنهم يكتبون ويشاركون في الأنشطة الثقافية والاجتماعية والسياسية فيُبقون على بعض الأمل حياً، ويحدّون من سرعة الانحدار. ولهم لذلك كلّ الفضل في حماية مساحاتٍ من الحيوية والتنوّع اللذين ما زالا سِمتين - في الواقع كما في الشعارات - لبيروت ومقاهيها وجامعاتها رغم العنف وفائضه...