لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الخامس والتسعين بعد الثلاثمئة على التوالي.
أما الحكومة، فلا بد منها ولو طال ارتحالها سياسياً، وللمجلس النيابي أن ينتظر دورة عادية جديدة، ولا يجد من يوفّر له نصاب انعقاده المؤجل منذ تشرين الثاني العام الماضي، يوم اجتمع فقط ليمدّد لنفسه، برغم قلّة انتاجيته، لا بل انعدامها، الأمر الذي يطرح أسئلة عن الأسباب الموجبة لاستمرار ولايته حتى حزيران العام 2017.
ومع انتفاء المبادرات الخارجية والداخلية الجدّية، لإيجاد مخرج للمأزق الرئاسي، فإن ما يواجهه لبنان يكاد يكون شبيها، إلى حد كبير، بالفراغ الذي أعقب انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل في العام 1988، ولم يكن من الممكن تفاديه إلا بسلسلة من «الحروب» قادت اللبنانيين إلى مؤتمر الطائف والى انتخاب رئيس جديد للجمهورية. هو الفراغ نفسه الذي أعقب انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود في خريف العام 2007، ولم يكن ممكنا ردمه إلا بممر إلزامي ساخن، هو السابع من أيار الذي توّج ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بعد مؤتمر الدوحة.
هل تكون الثالثة «فالتة»؟
الجواب يطرح أسئلة من نوع هل أن الممر الإلزامي لا بد أن يكون ساخناً محلياً، كما حصل بعد الفراغين السابقين، أم من الممكن أن يكون بارداً، وهل لا بد من اجتماع اللبنانيين كما حصل في الطائف والدوحة، وهل نحن متجهون نحو صيغة شبيهة بتلك التي نتجت عن أحدهما؟
أية أجوبة على هذه الأسئلة اليوم، هي نوع من التنبؤات، إذ أن مسار الفراغ محلياً، بمعطياته الراهنة، قابل للتمدد زمنياً ولفترة طويلة، وبالتالي، من غير الممكن كسره إلا بمعطيات محلية باردة تبدو أشبه بمعجزة، أو ساخنة، وليس تحديداً لـ «حزب الله» أية مصلحة فيها، خصوصاً في ظل ضبط إيقاعه العام وفق إيقاع الأزمة السورية. يصبح الاحتمال الأكثر واقعية هو ارتباط المعطى الرئاسي بتطور المشهد الإقليمي الساخن أصلا، وخصوصا في سوريا، وهذه نقطة يتفق عليها فريقا «8 و14 آذار»، ولو اقتضت المزايدة السياسية مجاهرة أحدهما بعكس ذلك.
لكن هل يتجه لبنان نحو صيغة جديدة أم أن الصيغة الحالية لا يمكن المسّ بها؟
قد يكون الجواب الأكثر واقعية في هذه اللحظة، ما عبّر عنه الموفد الفاتيكاني الكاردينال دومينيك مامبرتي في التقرير الذي رفعه إلى المراجع الفاتيكانية حول محصلة زيارته للبنان في مطلع حزيران الحالي، وضمنه انطباعاته التي تشي بأن الفراغ سيستمر طويلا وأن لا أفق لأية تنازلات محتملة، خصوصا من جانب العماد ميشال عون.
غير أن النقطتين اللتين يمكن التوقف عندهما في ما يخص زيارة مامبرتي هما:
أولا، سؤاله عن مدى تجاوب فريق «المستقبل» مع أي طرح يتعلق بـ«تطوير اتفاق الطائف لا تعديله أو إلغائه»، وذلك في سياق تعزيز الشراكة الإسلامية ـ المسيحية (اعادة الاعتبار الى لبنان الملجأ للمسيحيين الهاربين من العراق وسوريا وغيرهما من دول المنطقة)، مستندا إلى قراءة مفادها أن كل الظروف الدولية والاقليمية لولادة الطائف قد تبدلت لا بل انقلبت.
ثانيا، استشعاره أن ثمة خريطة جديدة ترتسم على أرض المنطقة بدءا من العراق الذي يتجه لأن يتحول الى ثلاثة أقاليم فدرالية.. الى سوريا التي بدأ الحديث عن تفتيتها يتصاعد، خصوصا في ضوء إحكام الأكراد مؤخرا قبضتهم على تل ابيض، وبالتالي امساكهم بشريط كردي على امتداد الحدود السورية العراقية التركية بدعم من «التحالف الدولي».
واذا كان أفضل تفسير لما طرحه مامبرتي يصب في خانة انتاج صيغة جديدة أقل من طائف جديد وأكثر من دوحة، لا بد من التوقف عند نقطتين أثارتا في الآونة الأخيرة اهتمام العديد من الجهات السياسية:

أولا، تضمين البند الرابع عشر من «اعلان النيات» بين «التيار الوطني الحر» و «القوات اللبنانية» اشارة واضحة للامركزية الادارية، وهي نقطة نص عليها اتفاق الطائف، غير أن الجديد فيها الدعوة الى «الالتزام بوثيقة الوفاق الوطني لجهة اعتماد اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة ونقل قسم كبير من صلاحيات الإدارة المركزية، ولا سيما الإنمائية منها إلى سلطات لامركزية منتخبة، وفقاً للأصول وتأمين الإيرادات الذاتية اللازمة لذلك».
ان الدعوة الى نقل جزء كبير من صلاحيات الادارة المركزية الى سلطات لامركزية منتخبة و «تأمين الايرادات الذاتية اللازمة لذلك»، يحمل للمرة الأولى في طياته اقتراب «التيار الوطني» في أدبياته من الطروحات الفدرالية، لا بل عودة الى أدبيات زمن «المتصرفية». وهنا يبرز السؤال: من كان المبادر الى طرح هذه الفكرة وهل يمكن «تقريشها» الا بمضمونها السياسي أولا؟
ثانيا، بدء جهات سياسية لبنانية برسم خرائط نفطية بحرية، بما في ذلك اعادة تقسيم «البلوكات البحرية» استنادا الى احتمالات الفدرالية في لبنان مستقبلا، والأخطر من ذلك، تجاوب جهات في هيئة ادارة القطاع مع هذه الطروحات، وهو أمر استوقف جهات دولية، خصوصا أن الأميركيين كانوا قد بعثوا بإشارات في الآونة الأخيرة الى مراجع رسمية لبنانية بأن موفدا أميركيا سيتحرك قريبا بين لبنان واسرائيل لايجاد تسوية سريعة لقضية الحدود البحرية المتنازع عليها، في ظل ظاهرة جنون الأسعار في قطاع الغاز.
وبين هذا المعطى وذاك، لا بد من ملء الفراغ اللبناني بما يتيسر من «الأشرطة»، فتأتي قضية التعذيب المدان لموقوفين في سجن روميه لتبعد الأنظار عن عناوين كثيرة، بدءا بحرب القلمون وجرود عرسال التي لم تتوقف بل تتدحرج ببطء على ايقاع معطيات ميدانية ومفاوضات تبادل العسكريين اللبنانيين المخطوفين، الى ملف الانتحاريين و «الأحزمة الناسفة» الذي عاد الى قاموس البرقيات الأمنية الداخلية، الى تزايد المخاوف على الشمال اللبناني ربطا بأية تطورات محتملة في محافظة حمص في سوريا، وصولا الى ملف وثائق «ويكيليكس» السعودية وما يتضمنه من وقائع تشي بانعدام الحد الأدنى من الأخلاق الوطنية، على غرار ما سبق ان كشفته وثائق «ويكيليكس» الاميركية.