انتفاضة ضد من؟
السؤال ضروري، في ظل ما بدا أمس كأنه برنامج منظّم لاستغلال جريمة وحشية بطريقة سياسية تناسب قوى وشخصيات تعاني سلسلة من المآزق السياسية والشخصية وحتى العسكرية. لكن الأخطر، هو عودة التواصل المباشر بين المجموعات المسلحة في جرود عرسال و»صقور» تيار المستقبل ومجموعات إسلامية ورجال دين.

بدأت القصة مع تسريب شريطين مصورين على هاتف نقال، لاعتداء وحشي قام به عناصر من قوى الأمن الداخلي ضد موقوفين في سجن رومية. في واجهة المشهد، تولى الوزير أشرف ريفي قيادة الحملة من داخل تيار المستقبل، وهدفه المباشر: رأس وزير الداخلية نهاد المشنوق. وهو هدف بدا أنه لا يخص ريفي وحده، بل قيادات عدة داخل المستقبل وحشداً من الشخصيات المحسوبة على التيار وعلى المجموعات الإسلامية والإرهابية التي تتهم المشنوق بالسعي الى تحقيق «مكاسب شخصية على دماء المسلمين». كما انضم الى الحملة آخرون من خارج السرب، يتقدمهم الرئيس نجيب ميقاتي الذي بدا أنه «ينافس ريفي تصعيدياً ضد خصم مشترك».
منذ الصباح الباكر، تحوّل منزل «نصير الإسلاميين» ريفي في طرابلس إلى خلية لهيئة علماء المسلمين. في مؤتمره الصحافي، كان محاطاً برئيس الهيئة الشيخ أحمد العمري ونائبه الشيخ سالم الرافعي، بدا حانقاً على منتهكي حقوق السجناء، علماً بأن العناصر الذين اقتحموا المبنى أو أولئك الذين كانوا يضربون السجناء هم من القوة الضاربة وشعبة المعلومات التي لطالما تفاخر ريفي نفسه بالمدرسة التي أرساها فيها خلال ترؤسه مديرية قوى الأمن الداخلي طوال ثماني سنوات.
مصادر في تيار المستقبل استغربت أداء ريفي، وتساءلت: «هل هكذا يحفظ جمهور المستقبل والشارع السني، أم يتسبب بخسارة رصيده ورصيد المشنوق والتيار ويشرع الباب أمام طرف ثالث يستفيد من الخلاف؟». ورأت المصادر أن ريفي «سائر على خطى النائب خالد الضاهر بالخروج من المستقبل والاستقلال عن مواقفه وسياساته؟». وذكّرت المصادر وزير العدل «بفضله في إقامة إمارة الإسلاميين وبالهواتف والأموال والتجهيزات ووجبات الطعام والحاجيات التي كانت تدخل بموافقته».
وعلمت «الأخبار» ان مسؤولا غير مدني اتصل بالرئيس سعد الحريري طالبا تدخله لمنع تفاقم الامر بين ريفي والمشنوق، فاتصل الأخير بالوزيرين طالبا التهدئة. وفيما برر ريفي للحريري موقفه بأن الشارع غاضب ولا يمكن احتواءه الا بخطوة كبيرة، وضع المشنوق ما يجري في خانة افشاله امنيا وسياسيا. وأعرب الحريري عن ثقته في بيان «بأن الوزيرين ريفي والمشنوق لن يكترثا لبعض الأصوات المزايدة التي تحاول استغلال قضية محقة لتحقيق مآرب سياسية ضيقة في هذه الظروف».
أولى ثمار حملة ريفي ومشايخ الجماعات الإسلامية كانت غليان الشارع الطرابلسي بشكل خاص، وانطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي من طرابلس إلى العرقوب تشكو «مظلومية أهل السنة في الشهر الفضيل» وتدعو إلى استقالة المشنوق. ودعت هيئة علماء المسلمين والجماعة الإسلامية إلى اعتصامات بعد صلاة التراويح في مساجد في البقاع وصيدا وطرابلس احتجاجاً على «بشاعة مشاهد التعذيب الهمجية المسربة من سجون الظالمين في رومية». وخلال الليل، انطلقت حملة احتجاجات شملت عكار وطرابلس ومناطق في البقاع الأوسط والطريق الساحلي في منطقة الناعمة، ووصلت الى الطريق الجديدة والكولا وقصقص وكورنيش المزرعة وعائشة بكار في بيروت.


ريفي يقود معركة اقالة المشنوق والحريري يتدخل للتهدئة بينهما

 

وشارك في الاحتجاجات ناشطون من تيار المستقبل، لكن غلب على الحشود عناصر تنظيمات سلفية ورجال دين من هيئة علماء المسلمين ومناصرون لـ»الثورة السورية». وركزت هتافات هؤلاء على استقالة المشنوق مع عدم إهمال الحملة حزب الله كالعادة.
وانضم «تنظيم القاعدة في بلاد الشام ــــ جبهة النصرة» الى الاحتجاجات، مهدّداً عبر «تويتر» بإعدام العسكريين المختطفين في جرود عرسال «لأننا لم نعد نتحمّل ما يحصل من تعذيب لأهل السنة». فيما اتهم الشيخ الفارّ أحمد الأسير شعبة المعلومات وقوى الأمن الداخلي «بإدخال حزب الله إلى رومية لتعذيب السجناء»، واصفاً المشنوق بـ»الخائن المرتد». ودعا أمير «كتائب عبدالله عزام» سراج الدين زريقات «أهل السنة إلى حمل السلاح وقتال حزب إيران». ولوحظت حماسة قناة «الجزيرة» ببث الشريطين بشكل متكرر في نشراتها أمس وتخصيصها وقتاً طويلاً للبحث فيه.
الشريطان أثارا تساؤلات عن توقيت تسريبهما رغم مرور شهرين على الواقعة. مصادر مواكبة أفادت عن «وجود أشرطة عدة أخرى توثق ضرب السجناء ستنشر تباعاً». وأكّدت أن نسخاً من الأشرطة «وصلت إلى مشايخ من هيئة علماء المسلمين وفعاليات إسلامية منذ شهر»، متسائلة عن سبب تأجيل نشرها.
المشنوق عقد مؤتمراً صحافياً وأدان ما ظهر في الشريطين، موضحاً أنه اتخذ الإجراءات العدلية والمسلكية وكلف ضباطاً منذ الصباح لمقابلة السجناء الذين تعرضوا للضرب، والذين سيقصدهم بنفسه اليوم. لكنه وجد أنه «لا يجوز الحديث عن الواقعة لأن المؤسسة الأمنية قائمة على المعنويات، واستغلالها سياسياً هو قلة أخلاق ولا يجوز تحميل هذه الحكومة مسؤولية كل الحكومات السابقة من أحداث الضنية. الأمر لا يحتمل المزايدة، وكل من يتكلم اليوم كان في الحكم ولم يفعل شيئاً، ومن يريد استغلالها سياسياً فهي مسؤوليته».
وكانت لافتة مؤازرة الرئيس ميقاتي لريفي في انتقاده للمشنوق. فتساءل: «طالما أن معالي وزير الداخلية اعترف بأن الواقعة تعود إلى أيام التمرد الأخير في رومية، فلماذا لم يتخذ الإجراء المناسب في حينه وترك الموضوع إلى تسريب الشريط؟ وهل هذه الحادثة هي الوحيدة التي حصلت، أم أن هناك ما لم يعرف بعد؟». ووجد أن «الاعتراف بالواقعة، والتبرير أنها حصلت في مرحلة التمرد داخل سجن رومية لا يلغيان المسؤولية المباشرة لأي مسؤول ووزير عن وصول الأمور إلى هذا المنحى».

السيد لريفي: هؤلاء زعرانك!

ورأى اللواء الركن جميل السيّد أنه «لا يحق لمن يسمّى وزير العدل أشرف ريفي أن يزايد على وزير الداخلية في قضية فيديو التعذيب الذي مارسه بعض عناصر فرع المعلومات، وخاصةً أن هؤلاء العناصر هم من تلامذة ريفي وزعرانه الذين لطالما كان يفخر بهم وبإنجازاتهم». ولفت الى أن «تراكمات سجن رومية والفلتان الذي ساد فيه على مدى السنوات الماضية إنما هي من الإرث القذر والمشؤوم الذي تركه ريفي في المديرية ليصبح بعدها أسوأ وزير للعدل في تاريخ لبنان الحديث». وأضاف إن «مبادرة ريفي للاصطياد في الماء العكر ولا سيّما من خلال ما بدر منه أمس في لقائه مع بعض شيوخ الفتنة في طرابلس، إنما يعبّر عن ذهنية وصولية مريضة اكتشفها اللبنانيون فيه بعدما خلع عنه بزة الضابط المزيَّف وأصبح من داعمي زعران المحاور في طرابلس ومن حماة علم داعش (...) وإذا كان من أحد يجب محاسبته وزجّه في السجن بهذه القضية فهو ريفي نفسه».


وحوش في رومية

الحكاية بدات ليل السبت، عندما انتشر في طرابلس شريطا فيديو يظهران قيام عناصر من القوة الضاربة بضرب سجناء بطريقة وحشية بعدما جردوا من ملابسهم وقيدت أيديهم إلى الخلف وأجلسوا أرضاً. أظهرت الصور العناصر الأمنية على شكل وحوش بشرية لا تتمتع بأي انضباط أو تربية عسكرية أو فهم لطريقة التعامل مع السجناء. كما أظهرت عملية إذلال غير مسبوقة لموقوفين إسلاميين كانوا قد دأبوا على القيام بعمليات تمرد داخل سجن رومية ومنع إدارة السجن من تفقدهم أو الدخول الى غرفهم. في أحد الشريطين، يظهر عنصران يضربان سجناء عرف منهم عمر الأطرش ووائل الصمد وقتيبة الأسعد (من عكار ووادي خالد) ويكيلان لهم الشتائم. في الشريط الثاني، يظهر عشرات السجناء يجلسون بالوضعية ذاتها أمام جدار في صفوف متتالية وبدت آثار الضرب واضحة على ظهورهم. بالتدقيق، تبين أن الشريطين التقطا خلال عملية اقتحام القوة الضاربة وشعبة المعلومات "مبنى - د" في سجن رومية قبل شهرين، إثر التمرد الذي أعلنه السجناء الإسلاميون. قوى الأمن الداخلي أعلنت في بيان أنها اعطت أوامرها بإجراء التحقيقات الفورية اللازمة في ما حصل في رومية وتم توقيف عنصرين متورطين والتحقيقات مستمرة.