يستأنف محمد علي شمس الدين سرد الحكاية, لا القصيدة. يستأنف صياغة أسلوبه الحكائي في متون النص الوجداني والتأريخي والإسقاطي,مؤكّدا في كتابه الصادر عن”دار كتابات”تحت عنوان"غرباء في مكانهم" أنّ الحكاية تُستأنف... فليس لكاتب أن يدّعي أنّ الكتّاب أخذوا منه فعل "كان" ولا حرفا من حروف الجر,أو لونا من ألوان الطيف.الكتابة شمس تتراقص أضواؤها على كل المرايا,وتنعكس على الوجود بألف صورة وصورة."
الشاعر في كتابه النثري، لا يحيد عن جوهر الشعر في تهويماته المثلى..حيث تضطرد الصورة مع المعنى باتجاه الفكر،وينزاح المبنى الحسي صوب الخيال الحر،وتروح الرؤية نحو البعد الميتافيزيقي للمنظورات.هنا يبدأ شمس الدين نصّه الحكائي الأول،المندرج تحت عنوان الغروب الثاني،فيقول:"في عصرذلك اليوم،من أواخر تشرين الثاني(نوفمبر)من العام 1975 والخريف ينشرمع النسيم،ملاءة رقيقة من الغيوم،فوق سماء بيروت،كان ثمّة غروب آخرفي المدينة،غروب فادح لم يشهد له مثيل من قبل.يتقوّس الأفق الغربي المشرف على سماء "رأس بيروت" فوق مياه البحر.مشتعلا بشمس حادّة ومفترسة،فيظهر كأنّه عنق لذبيحة ضخمة من عصورالاضاحي القديمة.الأمواج تتدافع كالخيول،بأعرافها البيضاء،وتتحطّم على شاطىء صخري أصّم أو تتذرّرفي الرمال.في الطرف الآخر المنسرح من الشاطىء.هكذا كان دائما،وهكذا سيكون.منذ ما طلعت شمس على المدينة ثمّ غربت. لكن ذلك الغروب كان غروباً آخر."
يرجع الشاعر في هذا النص إلى بدايات الحرب الأهلية في لبنان. و نقرأ وجه هذا الرجوع من خلال الفقرة الآتية: " في ذلك الغروب وجد الصّيادون على شاطئ "الرملة البيضا" من جنوبي بيروت، خمسة دلافين ضخمة، ذات أشكال بشرية. و هي مطعونة بحراب سامة. و كانت و هي تحّرك أذنابها الدامية تخور كأنها العجول. رفع محّمد حاجبيه الكثيفين و قال وهو ينظر إلي من خلف نظّارته بعينين طافحتين بالسخرية: منذ متى كان بحر بيروت يلفظ إلى الشاطئ حيتاناً بوجوه بشرية؟ و أضاف لعّلك كنت تحلم بكابوس من كوابيس الحرب".
كما نقع في" الغروب الثاني" علىالوجه الآخر لزمن بيروت المشتعل بالنار والحديد،والمنقطع عن زمن الغروب الأول...عندما كان بحر بيروت يٌصفق لساحات هذه العاصمة،اللامعة باشعر والفن والفكر،منتظرا حلول المساء،وانعكاس النجوم على مراياأمواجه ورموله.
أما في نص" العنف والموسيقى" فيردّنا شمس الدين إلى ذائٌقة فنية تراثية،إلا أنها لا تنفصل بصيغتها الأدبية عن السرد الحديث أو المعاصر. إذ يجتمع في هذا النص ركن التاريخ إلى رصيف الحاضر،ويؤدي مفرداته وصوره ورمزيته،بشكل أمين على النمط والطراز والعقلية واللغة والعادات.نقرأ من هذا النص – ص 20 – :وكان فريقا الصيّادين،جماعةأدهم وجماعة مرجان كما يسمّيهم أهل المحلّة،كلّ يعدّ العدّة للمعركة الموعودة..وهي ليست معركة واحدة،يخوضها الصيادون مجتمعين ،ضدّ الأسماك الضخمة الهاجمة،بل هي معارك عديدة،يخوضها فريقا الصيادين ،بعضهم ضدّ البعض الآخر،بأشرس ممّا يخوضون الصراع ضد حيتان البحر. فكم إصطبغت مياه تلك الشواطئ،بدماء البحّارة المتشاحنين،المتطاعنين بالنبابيت والسكاكين والخناجر،وتناثر لحمهم على الصخور،أكثر ممّا إصطبغت بدماء الأسماك الصريعة"
ثمّة مقامات وخلاصات قصصية في هذا الكتاب،تنسحب على دلالات التصّوف والخيال الأدبي حينا،وعلى إشارة من إشارات "ألف ليلة وليلة"حينا آخر. هنا يقدّم شمس الدين مرويّات عن "مرايا قيس" ومقام الشجرة" و"كابوس مُكيّف"،كما يقدّم محاكاة لكتاب فريد الدين العطّار"منطق الطير" بقصّة تتماهى مع الحرب التي شهدتها بيروت .يقول شمس الدين في محاكاته هذه- ص 54- :.حين صفرت باخرة الشحن الإيطالية "ماريانا" صفرتها المدوية في ذلك الصباح الرمادي من شتاء 76،كان فريد العطار،من رأس بيروت،يقف على رصيف الباخرة,ويلوّح بيده لزوجته الواقفة غير بعيدة عنه على الشاطئ،تلويحته الأخيرة . لم ينتبه لزخّ المطر، الذي جعل زوجته تضع يدا على رأسها لإتقاء حبّاته المتساقطة بغزارة،واليد الأخرى على بطنها المكوّر،وكأنّها تتحسّس بها حملها البكر...وتسارع،مع من كانوا يقفون على رصيف الميناء،لوداع ذويهم،للإحتماء برفوف المنازل،أو لفتح المظلات التي كانو يحملونها معهم. والحال أنّ الإندفاع في باخرة شحن راسية على المرفأ،والمغامرة في المجهول،والتعرّض لأهوال البحر ومخاطره،كانت يومذاك،أهون على الناس من المكوث على أرض محترقة،لا يعرف فيها أحد من أي الجهات يأتيه الموت"
في مقام آخر،يشدّنا محمد علي شمس الدين إلى هيمانه في إنخطافة الذات والوعي المنخطف بدوره إلى عمق الواقع.ففي ثلاثيته"وصف لأحوال الهائم"يظهر الكاتب كظل للأصل،ويختفي كأصل للظل.وفي هذا المدار،يقول –ص 91-:أنا ميم المشّاء.أضع يديّ في جيوبي عندما يهبط الليل على "بيروت" وأمشي.شوارع المدينة طويلة ومتعرّجة .هواء قوي يهّب في الشوارع ،ليس شتائيا ولا صيفيا،ولكنه يتحرك إبتداء من البحر،ويتغلغل في مفاصل المدينة وأزقّتها. وأنا فيه أتحرّك مثل مركب في بحر،لا أبالي،يتخافق معي ثوبي وأطراف قميصي، يغزل الهواء في الشوارع غزلا،ويُسمع له صوت وجلبات صغيرة حين تصفق بتحركّه بعض النوافذ أو مصابيح البيوت،ويهتزّ "تنك"واجهات المحلات،وحين أرفع نظري،يطلّ وجه إمرأة تنظر إلى أسفل الشارع بفضول،ويظهر عليها شيء من الإرتياب أو الإرتباك حين تراني وحدي أحدّق فيها...فوجهها جميل وصغير،وشعرها منثور فوق رأسها وخائف،ولعلها عروس في أول أيام عرسها وتخاف..وأناالغريب أحدّق فيها بلا أمل وبلا يأس أيضا،فتُواري وجهها المدوّر مني وراء قميص أو ملاءة،وألاحظها،من بين الثقوب وما تفسحه الثياب من فسحة تسترق منها النظر إليّ."
ويقول – ص 93 -:أمشي ولا أبالي .أدور في شوارع بيروت،حاملا جسدي على كتفي،وروحي ترفرف مثل طائر،وأصغي للأنين الذي يطّن في الصدر كأزيز النحل.هل تُصغي الشوارع للأنين؟"
أمشي في المدينة وحدي،يقول ميم المشّاء.الأيام تمر وأنا في هذا التطواف الأعمى.قلت في نفسي: المدينة كبيرة،وشوارعها كالمتاهة. فعلام أنت حائم فيها أو هائم؟.
عيناي مثل كلبين يسبقاني إلى كل ناحية.أتشمم روائح الأمكنة والمارّة.قلت لعلي فقدت عقلي من شهور طويلة. أو لعلّ ما فقدته لم يكن مستقّرا هنا في الرأس،بل هو كائن في مكان ما بين الصدر والبلعوم.فأنا،لو تعلمون،جسد ناحل،مجرّد خيال،فتى الظّل،أزرق العينين والهذيان،وأمشي عادة كالسكران."
في كتابه هذا يستأنف محمد علي شمس الدين الحكاية والقصيدة معا... ولكن من حنايا الشرايين وبريق العبرات التي تتلألأ فوق غربة النفس،لترسم بحباتها غربة المكان...وغرابة الإحساس والبوح معا.
غادة علي كلش