منذ أن طرح شكيب ارسلان السؤال: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون، والإجابات على هذا السؤال لم تنقطع. من محمد بن عبد الوهاب حتى داعش مرورا بكل حركات الاصلاح الديني هناك خيط رفيع يجمع بين الإجابات وهو تحميل المسؤولية للغرب ( المسيحي الملحد الاستعماري ، ناشر الحضارة المادية). شذ عن ذلك قلة من المصلحين، من بينهم الأفغاني وتلميذه محمد عبده الذي قال قولته الشهيرة، في الغرب إسلام من غير مسلمين وعندنا يوجد مسلمون ولا يوجد إسلام. وهو الذي حمّل رجال الدين المسؤولية قائلا :
ولكن ديناً كنت أرجو صلاحه .... أحاذر أن تقضي عليه العمائم
الجواب على هذا بسيط جداً : التخلف العربي الاسلامي بدأ منذ انهيار الدولة العباسية ، ومرت على العالم العربي قرون وقرون وخضع لغزوات المغول والتتار وهولاكو والحروب الصليبية والسيطرة العثمانية قبل أن يأتي الاستعمار. من جهة ثانية ، البلدان العربية السباقة إلى التقدم هي التي احتكت بالغرب( مصر ولبنان وتونس)
تأسست البوذية حين قرر الأمير الشاب بودا مغادرة القصر متخلياً عن نسبه النبيل وعن الجاه والسلطة، باحثاً عن صيغة لممارسة شعائره الدينية في حياة التقشف والرهبنة وبين الفقراء. هكذا فعل مريدوه ومقلدوه والمبشرون من بعده. في المسيحية كما في الاسلام ، حصل العكس، إذ سرعان ما سعى المبشرون إلى جعل الدين سبيلا للعبور إلى البلاط ، وجعلوه أداة في خدمة القصور وأصحابها، ووسيلة للحصول على درجة من درجات السلطة.
التحاق الدين بالسياسة والسلطة هو الذي شوه معنى الرسالات السماوية. وعليه ، فإن إزالة التشوه تبدأ، إذن، بإنقاذ الدين من سطوة السلطة ومصالحها الدنيوية وانتشاله من بطن السياسة، وإعادته إلى حيث ينبغي أن يكون، مصدراً لسلام داخلي يعيش المؤمن في ظله علاقة وئام مع الأفراد في محيطه، وعلاقة صفاء وخشوع أمام الخالق، تاركاً أمر تنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة باعتباره شأناً سياسياً دنيوياً .
أولى الخطوات الضرورية تكمن في إجراء مصالحة بين الدين والمجتمع وأخرى مع الثقافة المعاصرة وثالثة مع الإيديولوجيات الدينية والعلمانية، يتم من خلالها تخليص العلاقة مع هذه المستويات الثلاثة من طابع الخصومة وإدراجها في سياق التكامل والتفاعل اختزال الدين بطقوسه جعل الفقه يتخلى عن دوره في كشف المعاني العميقة للدين، تاركاً للعاملين في الحقل الديني( المعمم والداعية وقارئ العزاء والمؤذن وغاسل الموتى وخادم المسجد، الخ) تعميم الفهم السطحي للدين، ما ترك تأثيره على طبيعة الدراسات الدينية ، انخفاضاً في مستوى التعليم الديني من الجامعي إلى الحوزوي وطغياناً للكمية على النوعية ، وبدل تخريج الفقهاء والمجتهدين سيطر الوعي الديني الشعبي على التأويل والاجتهاد والفقه، واستسهل الجهلة الإفتاء وصدقوا قول الشاعر: أنا نبي لا ينقصني إلا اللحية والعكاز والصحراء. أليست هذه هي حال داعش؟!
الخروج من مأزق الطقوس يتطلب قراراً جريئاً في التعامل مع التراث. ذلك أن الفكر الديني الشعبي طرح مجموعة من الثنائيات المغلوطة، التي وضعت وجها لوجه وفي موقع الخصومة، كلا من التراث والحداثة ، الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد. إن فتح باب الاجتهاد معناه بالدرجة الاولى الانطلاق من أن كل جيل جديد مؤهل أكثر من سلفه للتعامل مع النصوص والوقائع والأحداث، وأن حلول المشكلات المعاصرة لا توجد في بطون الكتب، وأن تكريم التراث يتم باستلهامه لا باستحضاره، وأن السلف الصالح ، مهما علا شأن أي منهم ، هم أقل دراية من المثقف المعاصر الذي يتزود بما توفره له العلوم والمعارف يوما بعد يوم. وفي هذا المجال لا بد من وضع حد لتأويلات وتفسيرات تزور النصوص ، ولتقديس النصوص البشرية ومساواتها بالنص الإلهي.
موقف رجال الدين المسلمين السلبي من العلمانية والعلمانيين نابع من فهم مغلوط لهذه الظاهرة السياسية الفكرية، ساوى بينها وبين الإلحاد. ولم يكن موقفهم من المفكرين الاسلاميين أقل سوءا، اعتقاداً منهم أن الشأن الديني حكر على طائفة المعممين، وأن إسهامات الفلاسفة في هذا الشأن هي ضرب من التطفل والعدوان. ذلك يفترض قيام مصالحة مع الفلاسفة والمفكرين المعاصرين الذين أغنوا النص الديني بقراءات جديدة.
مثل هذه المصالحة تحتاج إلى ثقافة دينية جديدة وإلى تنظيم حديث للكهنوت الاسلامي. صحيح أن عدم وجود "كنيسة إسلامية" يمنح رجال الدين هامشاً من الحرية ليختاروا نوعية تكوينهم الثقافي ، لكن لهذه الحرية وجهاً سلبياً يتمثل بإعفائهم من أي ضابط علمي أو معرفي، ما يبيح لأي كان انتحال صفة رجل الدين أو المفتي أو المجتهد أو العلامة، وتصير الألقاب وسيلة للكسب لا تعبيرا عن مستواهم الثقافي وعن درجة تحصيلهم العلمي. ربما كان الحل الأفضل لهذه الظاهرة هو التمثل بالتجربة الدرزية أو البروتستانتية التي لا تعترف بتفرغ رجل الدين لمهمات دينية.
وأخيرا وليس آخراً، نجاح أي حركة إصلاح ديني رهن بتخلي المؤسسة الدينية عن مهمات هي من صلاحيات الدولة، وبإلغاء كل ما من شأنه منازعة الدولة أو مشاركتها أو منافستها في مجال القضاء أو الجباية المالية أو الاشراف على الشأن العام.
(محمد علي مقلد)