عندما تدخل الى مؤسسات الزعيم، تخال نفسك تدخل الى مؤسسات غربية اوروبية بالشكل... منظر عفيف وربطات عنق تمر وتتكئ خلف مكاتبها الانيقة المنمقة... هدوء عام وشامل ينتابه الكثير من الهمسات المتناقلة لتخرق الصمت... همسات لا تعرف مبتغاها الا بعد إطلاعك على مضمون الحركة التي تثيرها، وعلى تقسيمات الماكينة والسلطة التي تديرها، وصولاً لكشف الاليات المعتمدة للسرقة المقنعة...
لمعرفة من يسرق الزعيم، عليك ان تفهم المنظومة بتركيباتها وتقسيماتها المختلفة ومصدر القرار فيها، وآليات تنفيذه وخباياها المختلفة... وقدرة كل منها على تجيير القرار لصالح من وكيف... وصولاً لمعرفة المسؤولين مباشرة عنها والى معرفة التغطيات وعمليات التستر المتبادلة القائمة لتنفيذها...
تتقسم عادة مؤسسات الزعيم الى قطاعات مختلفة موزعة بين شخصيات مختلفة، تكتسب سلطتها ونفوذها بحسب قربها من الزعيم الكريم ورضاه... حيث يكون الرابط الاساسي نسبة الوشاية والنميمة على البقية، وبقدرة هذه الشخصية على تطويع الزعيم للانصات اليها... عبر وسائل بات عنوانها الاساسي، تنفيذ كل أوامر الزعيم من عمليات مشبوهة، بما يعرف بلغة "سواد الوجه"... اي القيام بتعطيل كل ما لا يريد الزعيم الموافقة عليه ضمناً، وبعكس ما يصرح به علانيةً... يضاف اليها لغة الحرص المفترضة على مال الزعيم ومصالحه من الاخرين... مترافقة مع الاشادة به والتصفيق له على كل اخطائه وتعظيمه ووسائل المداهنة والزحف امامه... عند كل فرصة ولقاء مبين...
هذه الشخصيات عادة تتناحروتتحالف فيما بينها، حماية لمصالحها المختلفة ولتقاسمها النفوذ والاموال حيث تضع لنفسها خطوط حمر تحمي نفسها ومصالحها عبرها، وتسعى الى منع الاخرين تخطيها... فتُكون دائرة مغلقة جول الزعيم تمنع اي شخص غريب من اختراقها... هدفها الاساي حجبه عن التواصل مع الناس الا من خلالها... كما يستعملها الزعيم نفسه للخلاص من الناس وتهربه من القضايا ومتابعتها، عبر رمي المسؤولية على الاخرين تحت عنوان ... "لم اكن اعلم"...
الكل في هذه الدائرة له ممسك على الاخر... والكل يخاف ان يشي به الاخر الى الزعيم... والكل يعلم ان الزعيم له ممسك عليه ويهدده به... وبالتالي الكل في هذه الدائرة يعيش رعب وصول المعلومة الى الرأس رغم ان الرأس هو بنفسه من يكون قد أوجد هذه الدائرة لتتناحر... بحيث يعتمد على انشغالها بصراعاتها الداخلية، ليمنعها عن التصارع معه بأقل كلفة ممكنة... هذه الدائرة المقربة تسعى الى توريط كل من فيها بفسادها، بحيث يقتل كل من يتخلف عن المشاركة خوفاً من الوشاية بهم... وكل الوسائل والاتهامات متاحة دون خجل... لتصبح المؤسسات مبنية على موظفين تابعين لكل طرف، يتصارعون فيما بينهم بحسب الحاجة ويقومون بدور أجهزة المخابرات الداخلية... فينقلون تحركات الاخر وتفاصيل عمله، ويسعون الى تعطيلها اذا طلب منهم حتى ولو كان التعطيل على حساب مصالح الفقراء والزعيم والمؤسسة...
مؤسسات الزعيم واضحة للعلن... تبدأ به وتنتهي به ولا يمكن تسيرها الا بما شاء ويشاء... وهذا حقه... يعرض مسؤوليها مقترحات مشاريعهم ونشاطاتهم السنوية عليه... وهو من يقرر بالموافقة او الرفض دون غيره... ثم تحول الى دائرة الدراسات لتخمينها وانتاج موازنة لها ولتكلفتها... ومن ثم ترسل الى الدائرة المالية لبرمج صرفها بحسب الفترات الزمنية التي تمتد عليها، بحيث يدفع كل قسم منها عند الحاجة وبحسب الجدولة المتفق عليها مع رئيس القطاع او الدائرة...
عند إرسال الموازنات، تتحول الاموال الى حسابات خاصة بالمؤسسة بحسب الحصص لكل قطاع وحاجاته... يحكمها جميعها المسؤولون المالييون المعنييون من الزعيم نفسه، والمخولين وحدهم بتوقيع الشكات المصرفية بأسماء المستفيدين... أكانوا موظفين او جمعيات او لشراء المستلزمات العائدة لاي قطاع او مشروع على إختلافه...
عند التنفيذ، يطلب مسؤول القطاع الحصول على الاموال على أشكال مختلفة وعبر رسائل خطية الى دائرة المحاسبة ودائرة المشتريات التي تؤمن كل حاجات القطاعات بشرائها من مصادرها المختصة والمختلفة والى دائرة المحاسبة التي تدفع رواتب الموظفين وفواتير الاتصالات والايجارات والكهرباء والماء مباشرة الى المستفيدين، عبر آلياتها المعتمدة، وبعد حصولها على موافقة المسؤولين الماليين عن الصرف، دون أن يكون لمسؤول القطاع اي قدرة على التصرف او لمس اي قرش بيده مهما علا شانه... بل عبر كل هذه المؤسسات المذكورة اعلاه (المشتريات والمحاسبة والمالية والزعيم) وبتوقيع وموافقة المسؤولين عن صرف اموال المؤسسة... وهنا تبدأ السرقة...
السرقات تبدأ في دائرة المشتريات... حيث يعمد المسؤولين عنها الى تقديم عروض من جهات مختلفة تابعة لها، متفق معها مسبقاً على حصص او نسب تعود اليهم عبر تضخيم الفواتير واسعارها... وتتقارب فيما بينها... واذا قارناها بالسوق مباشرة، نرى ان الفروقات تتخطى 40% من ثمنها الفعلي وقد تصل في بعض الاحيان الى نسبة 100%... وتتخفى دائماً وراء العروضات الاخرى التي تزيدها ثمناً بالمقارنة فيما بينها... دون العودة الى اسعارها الحقيقية الموجودة في السوق... ممل يجعل من الشاري والبائع ومن يوافق على الدفع ويوقع على الشكات شركاء في السرقة...
لنأخذ مثلاً واضحاً كترميم مبنى ما، مخصص لإدارة مشروع جديد يراد تحويله الى مكاتب جديدة و تجهيزها بالفرش والمعدات والوسائل التكنولوجية كالكمبيوتر والاتصالات وتوابعهما ... حيث يرسل مدير المشروع او القطاع طلب الى دائرة المشتريات بما يريده ضمن مواصفات الترميم التي يضعها بنفسه او بمساعدة مختص من الدائرة نفسها ومحسوب على مسؤوليها... وعند انتهاء الدراسة ترسل الى مقاولين معروفين منها وتسعر بأسعار خيالية تؤمن الحصص للجميع...
اذ يكفي لأي شخص ان يقدمها الى مقاول من خارج هذه الدائرة ليرى ان الاسعار تختلف بنسب كبيرة جدا، تفضح الجميع دون اي التباس... وعادة هؤلاء المقاولون يكونون على علاقة قرابة او صداقة مختلفة او مصلحة معروفة من الجميع... حيث تراهم دائماً بصحبة اصحاب القرار أينما وجدوا وأينما تواجدت فريسة لالتهامها...
اما في حال عارض مسؤول القطاع على الاسعار لمعرفته المسبقة بها، تعمد دائرة لمشتريات على تركه يأتي بالاسعار وعروضات اخرة وتتجاوب معها خوفاً من الفضيحة... ثم تحاول وضع بنود جزائية زمنية على المتعهد الجديد لتكبيله وتفشيله بأداء المهمة والعقد... ومن ثم يتم فيما بعد اعاقة عمله وتفعيل البنود الجزائية لافالسه... او لابعاده او لمنعه مستقبلاً من الدخول في اي مناقصة اخرى... او كذلك الامر لتطويعه ودفعه للمرور بهم ورفع اسعاره وتقاسم الحصة معهم... ثم تبدأ الحرب العلنية مع مسؤول الدائرة الذي تخطى الخطوط الحمر التي رسموها لصلاحياته التي تتضارب مع مصالحهم وفسادهم المستشري...
اما في المفروشات فتتكرر الامور ذاتها مع متعهدين اخرين مع حصص اضافية، لحين الوصول الى فضائح اخرى تتمثل بالاجهزة الالكترونية... حيث يتم تأمين حواسيب مستعملة بأسعار الجديدة منها... واذا بحثنا جيدا، تراها حواسيب مستعملة كانت موجودة في مستودعات المؤسسسة، واستعملت خلال الانتخابات او لمشاريع او لقطاعات اخرى اندثرت... دفع ثمنها الزعيم سابقاً وعاد المسؤول عنها لبيعها له مرة اخرى عبر تأمينها للقطاعات المختلفة ومن خلال سحب ثمنها من موازتاتهم المختلفة لمرات ومرات عدة... دون حسيب او رقيب...!!!
في قطاعات الصحة الامور تحتلف جذرياً... حيث تبدأ الامور مع حبة الدواء ومستوردها من التجار والمستودعات... فيعمد المسؤول الى شراء كمية معينة منها لمستوصفات الزعيم بسعر الكلفة، ويضع العروضات في جيبه ليبيعها الى الزعيم فيما بعد دون احتساب الكومسيونات الناتجة عنها... كما يحاول بطريقه شراء كميات دواء قريبة من تاريخ انتهاء الصلاحية باسعار أدنى من أسعارها المعروفة ويفوترها على الزعيم بسعرها الطبيعي... ثم يعود فيما بعد ليوزعها مجزءة على المستفيدين من الفقراء بالظرف او الحبة... فتحتسب العلبة علبتين والسعر مرتين... والزعيم يدفع بكل الاحوال اقله مرتين...
اما في قطاع الكسوة والحصص التموينية فحدث ولا حرج... فلا أحد يعلم كم عدد الحصص التي وزعت ولا حجمها ولا يستطيع اي كان معرفة حقيقة توزيعها للناس او بيعها او ما وجد فيها من مكونات وبأي اسعار أشتُريت... كما لا احد يعلم متى تقفل المخازن وبأي توقيت... ومن يحدد من المستفيد من صاحب الحاجة....
اهم سرقات الزعيم هي سرقة نفسه بنفسه... حين يوافق على مشروع ويبدا بتأخير تفعيله... فبدل ان يدفع رواتب وأجور للمشاركين به وعلى سنة كاملة... يعمد الى تقليص الفترة الزمنية عبر تأخره بتوفير الاعتمادات لها، فيدفعها على تسعه أشهر او اقل... يكون بذلك قد وفر 25% من موازنة الرواتب العادة له...
كما يعمد الزعيم او مسؤوليه الماليين الى استعمال مبدأ السنة الجرمية المعتمدة في القضاء اللبناني مع مناصريه، الموجودين على لائحة الرواتب والمخصصات... حيث يعمد الى تسديد المستحقات الشهرية لهم عبر تأخيرها اسبوعاً عن كل شهر... اي ما يقارب 12 اسبوع في السنة... مما يجعل المستحقات تتقلص الى 9 اشهر بدل 12 المتفق عليها فيوفرها الزعيم او يضعها المسؤول في جيبه... ناهيك عن النسب التي يقتطعها المسؤولون عند ايصالهم المستفيدين للرواتب او المخصصات من كل فرد او جمعية او مجموعة أمنوا لها الدخل بالتواسط لدى الزعيم، كحق مكتسب يتفقون عليه مع المستفيدين مباشرة، بعد تضخيمها وتضخيم أحجام اصحابها بما يغري طموحات الزعيم وهواجسه الانتخابية المفترضة...
اما إبداع الزعيم فيتجلى حين يعمد الى وضع قانون استعادة الموازنات الغير مصروفة شهرياً... حيث يعمد الى تأخير إرسالها لمنع صرفها ومن ثم يسحبها في موعدها... مما يدفع رؤساء الدوائر لصرفها بسرعة فائقة، خوفاً من عدم تأمين المدفوعات للالتزامات المختلفة... أو خوفاً على حصصهم المحتسبة قبل خسارتها... كما يعمد النافذون منهم الى منعها عن الدوائر او القطاعات المغضوب عليها، فيعطلونها بتأخير صرفها.. ويضعون مسؤوليها بمواجهة مباشرة مع الناس، مما يحولهم الى كذبة منافقين يتشابهون مع اصحاب القرار ومن عيّنَهم... وينهون المهمة بتحريض الزعيم عليه بالافتراءات من جهة وصوب لحين تطفيشه...
هذا جزء صغير من ممارسات زعيم مزعوم... يعرف ماذا يفعل ومتى يَسرق ويُسرق... ومن يسرق بإذنه وتحت أعينه... سرقة مشرعة كنوع من جوائز الترضية الغير مباشرة المسموح بها بعلمه لبعض الزواحف والفطريات... حيث يعمد ان أخبره احدهم الى التذرع بخوفه على البعض كمفاتيح انتخابية... قاردون على اسقاطه لو اراد منعهم من سرقته وسرقة المال المخصص للفقراء في مدينته... فيسقط الزعيم بأفعاله وافعالهم الى جهنم وبئس المصير... ليعود فيما بعد بماله الانتخابي الى العوم من جديد في أمان بحر المناصب والمراكز... ليستعيد ما دفعه من الاموال العامة او من المؤسسات الدولية المانحة باضعاف مضاعفة... بإسم الفقراء والايتام وعابري السبيل.
هذا الزعيم لا يسرقه الا الزعيم نفسه او بعلمه وإرادته ورضاه... ليقول بعدها هذا من فضل ربي...!!!