بدا المرشد الايراني علي خامنئي، في الذكرى الـ26 لوفاة الامام الخميني، اذ حذّر الايرانيين من «صفعة» اذا أضاعوا طريق «مؤسس الجمهورية»، كمن يدلي بوصيته وبالأخص كمن يقول إنه هو مَن حافظ على «خط الامام»، مشيراً الى «أناس سيأتون ويقدّمون الخميني ويعرّفونه وفق أذواقهم»، لكنه «واجه الظلم أينما وجد» وكان «لا يعتمد على القوى الكبرى والاستكبارية، ولا يأخذ أصلاً بوعودها، وهذا ما نلمسه الآن في ما يجري مع ايران وما يعلنه (الغربيون) تجاهها». ربما كان خامنئي دقيقاً في توصيف مبادرتين للخميني («إطاحة الملكية وتأسيس نظام حكم قائم على الإسلام»)، غير أنه قال: «نعارض داعش في سورية والعراق»، وإذا بسعيد قاسمي، القيادي الحالي في ميليشيات «أنصار حزب الله»، يوضح ما لم يقله المرشد فيؤكد في اليوم نفسه أن تنظيم «داعش» استلهم فكرة العمليات الانتحارية وإعداد الانتحاريين «من فكر الإمام الخميني». ويعرف الايرانيون جيداً دور هذه الميليشات في القمع والترهيب، أي في ممارسة الظلم لا في «مواجهته».
ليست سياسات الدول الغربية مثالاً للأخلاقية واحترام المبادئ ولا يمكن الوثوق بتعهداتها، أمر لا يختلف عليه اصدقاء اميركا ولا خصومها. لكن المعلن أيضاً أن العقبة المتبقية أمام أي اتفاق للنووي هي صدقية ايران، فحتى روسيا والصين لا تعارضان وضع شروط وآليات رقابة صارمة للتأكد من مدى الالتزام الايراني. وعلى رغم نبذ الخميني للاستكباريين يلمس القاصي والداني ما تبذله ايران للتوافق مع الولايات المتحدة لإنهاء الأزمة النووية ورفع العقوبات، بل خصوصاً للحصول على «شرعية امبريالية» لمغامرة «الامبراطورية» الاقليمية التي تخوضها طهران غير مهتمة بتداعياتها الكارثية على شعوب جوارها العربي. فمن دون اعتراف «الشيطان الأكبر» وشرعيته ستبقى هذه «الامبراطورية»، كما هي فعلاً، مجرد مشروع مذهبي يورّط الشيعة في صراعات لا نهاية لها مع مجتمعاتهم.
انتهز خامنئي المناسبة للإشارة الى سعي «الأعداء» إلى «بثّ روح الفرقة والفتنة بين المسلمين»، مستنكراً طرحهم «مصطلح ما يُسمونه الهلال الشيعي كنموذج من تحركات الفتنة الرامية إلى ضرب الوحدة الإسلامية»، ليخلص الى أن ايران وقفت الى جانب المقاومة اللبنانية الشيعية مثلما ساندت المقاومة الفلسطينية السنّية، بالتالي فهي «بعيدة كل البعد من اتخاذ مواقف طائفية». قد تكون هذه المرّة الأولى التي ينزلق فيها المرشد الى تحديد مذهب «المقاومة»، لكن يبدو أن ضغط الظروف واقتراب الاستحقاقات الإقليمية جعلاه يتجاوز الحصافة. أو لعله تأثر بصراحة الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله عندما استغلّ الذكرى الـ 15 لتحرير جنوب لبنان، قبل أسبوعين، ليذكّر بأنه يتحدّث عن «المقاومة التي صنعت هذا النصر» فإنه يعني شيعة لبنان. أما دعم المقاومة الفلسطينية «السنّية» فكان ولا يزال من لوازم المشروع الايراني، وليس من أجل فلسطين.
الأرجح أن القادة العسكريين يجهلون رأي المرشد، فها هو محمد علي جعفري، قائد «الحرس الثوري»، يؤكد أن «الهلال الشيعي تبلور بعد الأحداث الأخيرة (اليمن) وهو على وشك أن يكتمل في شكل رسمي» (8 أيار/ مايو 2015)، موضحاً لمن لا يعلم أن هذا «الهلال» يعني «تضامن المسلمين ووحدتهم في دول المنطقة، كإيران وسورية واليمن والعراق ولبنان والدول الأخرى التي تعتمد نهج المقاومة». وبعدما أشار الى تجنيد مئة ألف مقاتل في سورية والعراق تعتبرهم ايران «رأس المال الكبير للجمهورية الاسلامية» لم يتردّد جعفري في القول إنه «في الوقت الذي تشهد المنطقة توتراً أمنياً، فإن إيران تعيش ببركة دماء الشهداء في أمن واستقرار كاملين»!...
وإذ يقول خامنئي «نعارض داعش في سورية والعراق» فإنه يحاول التشبّه بأي مسؤول، كندي أو استرالي مثلاً، بعيد من المنطقة ولا يعرف عن «داعش» إلا ما يراه في الأخبار والتقارير وأشرطة «يوتيوب». وفي ذلك الكثير من التضليل، بل من طمس الحقائق، خصوصاً اذا جاء من المسؤول الديني والسياسي الأرفع مستوى في بلد يدير الفتن في «العواصم الأربعة» التي يسيطر عليها جنرالاته وحلفاؤه، الذين يعرفون «داعش» وتاريخه، ساهموا في ولادته من رحم تنظيم «القاعدة» في العراق وانزعجوا من دور «الصحوات» السنّية، ولذا كانت تعليماتهم الأولى لنوري المالكي أن يفككها ويفرّقها ويضطهد عشائرها وأبناءها ليعيدهم الى حضن «القاعدة» / «داعش». ولم يكتفِ جنرالات «الحرس الثوري»، اذ «يواجهون الظلم» إسوة بالخميني وخامنئي، بل ضاعفوا ظلم المالكي للعراقيين وظلم بشار الاسد للسوريين بظلم «داعش» الذي بات من أعتى ما عرفه التاريخ البشري.
لم يكن جنرالات المرشد مجرد شهود، بل مساهمين في صعود «داعش» وتوحّشه المنهجي، وأكثر الأطراف جاهزيةً لاستخدامه، وفي ذلك جواب الى كل من يسأل لماذا كلما تحرّك «داعش» يكون واضحاً أن ايران هي المستفيد الأول والوحيد. لكن المرشد يقول إن «مَن يبثّ الفتنة من الشيعة أو السنّة في المسلمين، يعمل لمصلحة الاستخبارات الأميركية والبريطانية، ويستهدف الشيعة والسنّة في آنٍ»، بل ينبّه إلى «مؤامرات ترمي إلى التقسيم على أساس الدين بين الشيعة والسنّة، وعلى أساس قومي». وفي مجريات الصراع السوري برهنت اميركا حرصها على النظام وكرهها للشعب، أي أن اوباما وخامنئي ونتانياهو يلتقون على موقف واحد مرحّب بـ «الظلم الأسدي» للشعب، مع فارق أن الاميركي يغطي حقيقته بانتقاد الاسد، والاسرائيلي بالصمت، أما الايراني فيشير من قبيل النفاق الى «محور المقاومة». وفيما أبرزت الاستراتيجية المعتمدة في «الحرب على الارهاب» مؤشرات الى أن اميركا مستفيدة من «داعش»، فقد صحّ اتهامها من جانب المرشد، وحتى اتهام بريطانيا، لكن ماذا عن ايران ودورها المباشر على الأرض. فليقل خامنئي، من قبيل المصارحة والصدقية، أن بلاده اختارت «الفتنة بين الشيعة والسنّة» كمدخل لشراكة عميقة مع الغرب.
لم يفوّت المرشد المناسبة من دون أن يؤكد أن فلسطين «ساحة للجهاد الواجب والملزم اسلامياً»، وأن قضيتها «ستبقى الأهم» بالنسبة إلى النظام الإيراني. ويُفترض تصديق هذه الشهادة» كونها لازمت الثورة الايرانية منذ لحظاتها الأولى، ولا تزال محوراً لأي خطاب رسمي ومحركاً لأي تحشيد جماهيري. ها هي لحظة الحقيقة تقترب، فالمرشد يقول: «لا أمر سيُبعد إيران عن هذه القضية»، لكنه يسعى الى «شراكة» مع اميركا بعد الاتفاق النووي. ويتوقّف تمديد درجة الشراكة هذه على مدى استعداد طهران لجملة «تصحيحات» سياسية، وأهمها الابتعاد عن الصراع العربي - الاسرائيلي. لعل أهم الاشارات الى الاتفاق النووي وشيك الحصول أن جنرالات اسرائيل باتوا يقللون من «الخطر النووي الايراني»، كما أن تعاملهم في الشهور الأخيرة مع التوترات في سورية ولبنان صار أقرب الى ترجيح الشراكة على الصدام والمواجهة، حتى أنهم أبلغوا ايران و «حزب الله» بأن مناوراتهم ضد الصواريخ غير موجّهة ضدهما. كان الايرانيون سرّبوا مراراً أنهم تلقوا عروضاً مغرية لإنهاء الأزمة النووية لقاء تخلّيهم عن القضية الفلسطينية، لكن المفاوضات أظهرت أن التخلّي عن «القنبلة» هو المدخل الى تخلّيات اخرى.
وفي اطار «مواجهة الظلم أينما وجد»، تدليلاً على كونية مواقف الخميني، شدّد خامنئي على رزمة معارضات تمتد من «عنصرية الشرطة الأميركية ضد السود» الى «قصف الأبرياء في اليمن»، و «الإجراءات القاسية في حق الشعب البحريني»، و «قصف الطائرات الأميركية بلا طيار الشعبين الأفغاني والباكستاني»، إلا أنه تجاهل ما سيتطلّب منه كل الاهتمام عاجلاً أو آجلاً: الوضع الداخلي، مكتفياً بإشارة الى «الوحدة الوطنية» التي «استهدفها الأعداء». والواقع أن الاستهداف الأبشع يأتي من ميليشيات نظامه التي باتت تضع قمعها الشديد للبلوش والكرد وعرب الأهواز في اطار «محاربة داعش»، تماماً كما تفعل في سورية والعراق، وقد أفاض وزير الاستخبارات محمد علوي في الحديث أخيراً عن تفكيك عشرات الخلايا والمجموعات. لكن الشعب الايراني ينتظر رفع العقوبات واسترداد الأرصدة المجمّدة ليرى وجهة الأموال، أهي لإنعاش الداخل المقهور أم للمغامرات الخارجية. هذا أحد المحكّات الدقيقة المقبلة للنظام، فهل هو فعلاً في صدد رفع الظلم عن شعبه أم يستمر في النفاق؟