جلسنا على البرندا، أنا والنجّار ابن ضيعتي، وكان انهى تصليح درف خزائن المجلى بعد ان استدعيته لإصلاحها. وصديقي هذا ليس نجارا عاديا. فبالاضافة الى عدّة النجارة يحمل معه دائما تاريخا طويلا من تجربته النضالية ومشاركاته الكثيفة في القتال عندما كان محاربا على المحاور وخطوط التماس في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني.
صحيح أنّ صديقي لا يتمتع بثقافة كبيرة، لكنّه حتما من حملة الشهادات العليا في اختصاص جامعة الحياة. وهو مبدع بسرد تفاصيل كل معاركه، حتى انك تكاد تشعر وهو يحدثك عن واحدة من مشاركاته في معارك الأسواق بأنّ غبار المتاريس لا تزال عالقة على ثيابه، أو أنّك تتطلع إليه الآن في المعركة، من خلال ” الطلاقة” في قدرته الروائية. خصوصا حين يصل إلى تفاصيل حصار بيروت من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، وفرحه “الاحمق” (كما يصفه) عندما انصاع فيليب حبيب لتوصيف أبو عمار للـ”آر بي جي” على أنّها سلاح فردي يمكن للفلسطينيين أن يصحبوها معهم على سفن الاجلاء واعتبار ذلك بمثابة الانتصار!
ويروي لك لماذا هرب من الجنوب وتفرّغ كمقاتل في بيروت دون علم اهله ولا اهل الضيعة… فلكلّ جلسة معه حكاية جديدة، ودرس جديد. كيف لا وهو المثقل بالتجارب حتّى صار يرى الآن “بكلّ وضوح” (كما يقول). وواحدة من أهمّ حكمه أنّنا نحن اللبنانيين نكرّر كلّ تلك المرحلة السوداء كأنها لم تحصل أصلا.
المهم… صديقي هذا، في جلستنا هذه ولأوّل مرة لا يحدثني عن الماضي بل عن الحاضر. أخبرني كيف سُدّت كلّ أبواب المستشفيات في وجهه منذ أشهر قليلة عندما اضطر أن ينقل إلى المستشفى ابنته المعوّقة، بعد ما تدهور وضعها الصحي. “بقدرة قادر، يقول: “تأمّن سرير لها في المستشفى الحكومي بعد اتصال هاتفي أجراه وليّ أمر المسلمين في الضيعة”.
قبلها كان صديقي قصد المستشفى لكن من دون جدوى. لكنّ الاتصال المبارك غيّر كلّ شيء.
هذه الحادثة المؤلمة جرت فصولها ومعاناتها على مرأى من ولده البكر، الشاب صاحب العشرين ربيعا والمتّجه للانخراط حديثا في صفوف حزب الله.
هنا تبرز الغصّة في حديث هذا الوالد الآتي من التاريخ والعارف كلّ خبايا الحاضر وهو يحاول أن يشرح لابنه شيئا عن تجربة أبيه العبثية، محاولا أن ينقل إليه، وإن القليل مما أوتي من خبرة في عمر الطويل، علّه يثنيه عن مقصده، أو على الأقلّ يخفّف من حماسته.
فجأة صمت صديقي قليلا مرتشفا فنجان قهوته وتاركني غارقا في حيرتي وفي شغفي لمعرفة جواب ابنه: “إي؟ شو قلّك؟”، سألته وكلّي آذان صاغية.
“ما قال شي”، أجابني وأضاف: “إلا لاحقا، عندما أخرج من جيبه بطاقة صحية”!
وقال الابن لوالده: “هلّق صار فيني حكّم أختي ببلاش… وبحكّمك أنت وأمي كمان”.
فبُهِتَ الشيوعي العتيق .