لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم السادس والسبعين بعد الثلاثمئة على التوالي.
في مثل هذا اليوم قبل سنتين، شكّل حسم «معركة القصير»، بداية رسم معالم جديدة في الخريطة السورية ـ اللبنانية. وفي هذه الأيام تحديداً، تشكل عملية جرود عرسال، بوصفها امتداداً لجرود القلمون الشرقية، عنواناً لمعركة استراتيجية ستحسم الى حد كبير قدرة خصوم النظام السوري على التأثير في الأزمة السورية، عبر البوابة الحدودية اللبنانية.
في هذا السياق، لن يكون للحكومة اللبنانية، في اجتماعها، اليوم، وقبل أن تصبح بحكم المعطلة، اعتبارا من الغد، إلا أن تصدر «بياناً جميلاً»، تقارب فيه موضوع عرسال بصياغات قادرة على تلبية حساسيات جميع مكوّناتها، فيما أبلغ وزير الداخلية نهاد المشنوق المعنيين أن قراره بالتمديد للمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء ابراهيم بصبوص، بدءاً من يوم غد الجمعة، بات جاهزاً ولن يكون محكوماً بفترة زمنية قصيرة كما يتوقع البعض!
في غضون ذلك، تمكن «حزب الله» حتى مساء أمس من الإمساك ميدانياً، بما تسمى «عصا» جرود عرسال التي تسيطر عليها «جبهة النصرة» من وسطها. ومع هذا التطور الميداني المتمثل بالسيطرة المباشرة أو بالنار، على نحو 80 كيلومتراً مربعاً من أصل 200 كلم2 تسيطر عليها «النصرة» من جرد عرسال (200 كلم2 تسيطر عليها «داعش» ولم تشملها المعارك)، يصبح الإمساك بكامل الجرد الممتد من حدود مرتفعات الأمهزية (مقراق) ويونين ونحلة ورأس المعرة (السورية)، إلى خربة يونين في وسط الجرود العرسالية، وخط التماس بين «النصرة» و «داعش»، «مسألة وقت ليس إلا» حسب مصدر أمني معني في منطقة البقاع الشمالي...
وفيما تعلو أصوات الصواريخ وطائرات الرصد والمدافع والمواجهات الميدانية في الجرد العرسالي، على وقع إعلان «حزب الله» تقدمه على أكثر من محور، حاولت «جبهة النصرة» إقحام أبناء عرسال في واجهة المشهد، لصرف الأنظار عن المواجهة الميدانية المحتدمة بينها وبين «حزب الله».
وتمثلت هذه المحاولة بإعلان «النصرة»، في بيان، أمس، عن تشكيل مجموعة مسلحة حملت تسمية «كتيبة الفاروق عمر في عرسال»، لا يتجاوز عدد عناصرها أصابع اليدين وهدفها التصدي لـ «حزب الله». واتهم البيان «حزب الله» بـ «التجييش الطائفي» و «بتسليح العشائر الشيعية»، وتعهدت «الكتيبة» بأن تكون «درعاً حصيناً لعرسال وجرودها»، ودعت «أهلنا في طرابلس وصيدا وبعلبك وبيروت وغيرهم أن ينصروا أهل السنة بعد أن خذلهم الجميع».
لكن رئيس بلدية عرسال علي الحجيري أبلغ «السفير» أن الأمر «لا يتخطى الدعاية». وأكد أن أبناء عرسال سيدافعون عنها إذا مسها أي من الطرفين «سواء حزب الله أو المسلحون، ونحن الآن نقف على الحياد ونتفرج عليهما يتقاتلان، لكن الدخول إلى عرسال ممنوع».
وكان واضحاً من البيان المصور الذي بُثّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أن تشكيل «الكتيبة» جرى من دون تحضير مسبق، كما شابته بعض الهفوات التي عكست بما لا يدع مجالاً للشك أن «جبهة النصرة» تقف وراء تشكيل «الكتيبة» وليس أهالي عرسال.
وعدا قلة عدد المسلحين الذين ظهروا في الشريط، فإن إطلالتهم بوجوه ملثمة تثير الشكوك حول انتمائهم الفعلي إلى بلدة عرسال، مثلما يثير التساؤل لماذا يخفون وجوههم ما داموا يمثلون أهالي البلدة. كما أن الراية التي حملها هؤلاء، برغم عدم وجود اسم «جبهة النصرة» عليها، إلا أنها من حيث الخط والشعار تتطابق مع الراية التي ترفعها الفصائل المتحالفة معها في سوريا.
خريطة الجرد العرسالي
ولكن ما أهمية المناطق التي أعلن «حزب الله» سيطرته عليها منذ 24 أيار المنصرم ولغاية مساء أمس؟
يمكن تقسيم الجرود العرسالية التي تمتد على مساحة 400 كيلومتر مربع تقريباً إلى ثلاثة أقسام: الجرد المنخفض، الجرد الأوسط والجرد المرتفع.
يمتد «المنخفض» من وادي الرعيان فوادي صَورة ومحيطهما على نحو 35 كيلومتراً مربعاً. يلتصق هذا الجزء بجرود الأمهزية (مقراق) ويونين، ولم يشهد أي معارك ميدانية كون «حزب الله» يسيطر عليه من مرتفعات قرى السهل في المناطق اللبنانية وأهمها «تل الجبعة» في جرود يونين، فيما يسيطر الجيش اللبناني عليها بالنيران أيضاً من نقطة تمركزه في سرج حسان جنوب غرب عرسال.
ويبعد هذا الجزء عن عرسال البلدة نحو 18 كيلومترا ويعتبر بحكم «الساقط عسكرياً» والمعزول جغرافياً، حسب خبراء عسكريين يرجحون أن تكون «النصرة» قد أخلته مع بدء معارك الجرد العرسالي تجنباً لحصار مسلحيها في داخله.
ويقع وادي الرعيان ومحيطه، وهو الجرد العرسالي الزراعي المروي، تحت سيطرة نيران «حزب الله» من التلال المرتفعة في جرد عرسال نفسه، وأهمها حقل الزعرور وحرف وادي الهوا ومنطقة عين سيق ووادي المزراب غربي سهل الرهوة، وتعرف هذه المناطق بالجرد الأوسط.
وتعتبر تلة شُرّق (أسماها الإعلام «شروق») صلة الوصل بين الجردين الأوسط والأعلى، وقد سيطر «حزب الله» عليها، أمس، من جهة جرود رأس المعرة، وهي شمال وادي الديب، وتقع جنوب غرب تلاجة البريج في جرد عرسال، وتطل على الرهوة. ومع تلة «شُرّق» سيطر الحزب أيضاً على جبل أو سرج الزروب، كما يسميه أهل عرسال، وهو مشرف على الرهوة أيضاً.
وبسيطرة «الحزب» على هذه التلال يصبح سهل الرهوة، وهو السهل الأكبر في جرد عرسال، والمليء ببساتين الكرز والمشمش، كما «الصحن» أمام نيران «عناصر الحزب». من هذا السهل، نفذت «النصرة» الفرار الكبير لعناصرها بعدما أحرقوا خيمهم متجهين نحو الشمال، إلى عمق الجرد الذي يسيطرون عليه. وتقدم «حزب الله» باتجاه هذه المرتفعات عن طريق ضهور وادي الهوا العرسالي على الحدود من ناحية الجنوب مع جرد نحلة، إحدى قرى السهل.
ويبدأ الجرد الأعلى من منطقة الخشعات، وهي منطقة حدودية مشتركة بين نحلة وعرسال ورأس المعرة، سيطر عليها الجيش السوري و «حزب الله» عندما سيطرا على تلة موسى في راس المعرة السورية، ومنها أحكما سيطرتهما على شميس الحمرا ومجر الحمرا ومرد غازي وضهور الكشك ووادي أبو ضاهر وصولاً إلى وادي الديب الذي يقع على أطراف سهل الرهوة (العرسالي) وهو من أعلى المناطق في جرد عرسال، ويقع على حدود تلة موسى والخشعات وجرد نحلة طبعا.
والجدير ذكره أن وادي الديب هو كناية عن واديين ملتصقين: الأول، يمتد باتجاه عين سيق التي يسيطر عليها «الحزب» في الجرد الأوسط، والثاني يمتد من مدخل وادي الديب من الأعلى حتى وادي أبو ضاهر ومشرع العبد (وهي مناطق عرسالية أيضاً).
وحتى يحكم «حزب الله» سيطرته الكاملة على سهل الرهوة من ناحية الجنوب يجب عليه السيطرة أيضاً على جوار النقار (ارتفاعه 1850 مترا عن سطح البحر وهو يعلو الرهوة بنحو 500 متر).
وتحكم منطقة جوار النقار مساحة واسعة جداً تشمل كامل سهل الرهوة مع تلة تلاجة البريج. ويقع جوار النقار بين وادي الديب، وهو من جهة الجرد الأعلى، وبين وادي الزروب الذي يقع غرب الرهوة، وقد أعلن «حزب الله»، أمس، تقدمه نحو الزروب. ومن المرتفعات التي تعلو عن الرهوة، دمّر «حزب الله»، أمس، آليتين عسكريتين لـ «النصرة»، وثالثة لها أيضا محملة برشاش 23 ملم.
وتمنح السيطرة على ثلاجة البريج، والتي لم تكن قد حسمت أمس، إشراف عناصر «حزب الله» مباشرة على الرهوة (جنوب شرق) من جهة، وعلى وادي الحقبان من ناحية الشرق وهي منطقة استراتيجية.
وتكمن أهمية السيطرة على وادي الحقبان في اتصاله المباشر بوادي الخيل الذي تتمركز فيه «النصرة» وقياداتها وأبرزها أميرها في القلمون ابو مالك التلي.. وتعتبر جغرافية تلة وادي الحقبان على الحدود مع فليطا السورية صعبة عسكرياً كونها غنية بالمغاور والصخور وتطل على رأس وادي الخيل مباشرة، وتكشفه وتسهل السيطرة عليه.
وينتهي سهل الرهوة الذي يتحكم به «حزب الله» بالنيران، عند شمال غرب عرسال حيث يسيطر عليه الجيش اللبناني بالنار أيضاً من نقاط تمركزه في حقاب الحيات في منطقة المجر جنوب عقبة الجرد في مرتفعات عرسال البلدة.
ويقدر أحد الخبراء العسكريين سقوط نحو 35 في المئة من المناطق التي تسيطر عليها «النصرة» في جرد عرسال بيد «حزب الله»، ونحو 45 في المئة منها إذا احتسبت سيطرته ايضاً بالنيران على كامل منطقة واديي الرعيان والصَورة التي يمسك الجيش بأطرافها من سرج حسان.