قد تكون فعلاً أخطر انتخابات في تاريخ تركيا تلك التي ستجرى في 7 حزيران (يونيو) الجاري لانتخاب 550 عضواً في البرلمان وتشكيل الحكومة الجديدة، وذلك لأنها المرة الأولى منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تشرين الثاني (نوفمبر) 2002 التي يتم الحديث فيها عن احتمال سقوط هذه الحكومة واضطرارها إلى تشكيل ائتلاف وزاري مع حزب آخر، ما سيؤثر في موازين القوى داخل الحزب ويترك آثاره على السياسة الخارجية لتركيا في الشرق الأوسط، ولأن نتائجها، أيضاً، ستؤثر في علاقة الرئيس أردوغان بالحكومة المقبلة وسترسم ملامح صلاحياته بما ينعكس على مستقبله السياسي.
وعلى رغم أن باب المفاجآت مفتوح حتى لحظة إعلان النتائج النهائية، فإن استطلاعات الرأي الأخيرة كلها تشير إلى نقطتين مهمتين، الأولى هي تراجع شعبية الحزب الحاكم بنحو عشر نقاط، من 50 إلى 40 في المئة، خلال الشهرين الماضيين، لكن هذه النسبة التي تضمن له التقدم على بقية الأحزاب، لا تضمن الوفرة العددية المريحة التي اعتاد عليها في مقاعد البرلمان.
والنقطة الثانية هي صعود نجم حزب الشعوب الديموقراطية الذي يخوض الانتخابات للمرة الأولى، وهو وريث حزب الشعب الديموقراطي الكردي، واقترابه من تجاوز حاجز العشرة في المئة الذي يخوّله دخول البرلمان والحصول على نحو 70 مقعداً أو أكثر بقليل، ليحقِّق الأكراد حلمهم التاريخي بدخول البرلمان على قائمة الأحزاب لا المستقلين أو تحت عباءة حزب آخر كما اعتادوا في العقود الماضية.
وأكثر استطلاعات الرأي تفاؤلاً بالنسبة إلى الحكومة، تقول أن بقاءها منفردة بالحكم، في حال فشل حزب الشعوب الديموقراطية في دخول البرلمان، سيكون من خلال غالبية بسيطة في البرلمان لا تمكّنها من تغيير الدستور وتحقيق حلم أردوغان بنظام رئاسي واسع الصلاحيات، ما سيفتح باب الخلاف على الصلاحيات بينها وبين الرئيس أردوغان واسعاً. ويتساءل كثيرون عن احتمال قبول رئيس الوزراء وزعيم حزب العدالة والتنمية الحالي أحمد داود أوغلو ببقاء العلاقة مع الرئيس على ما هي عليه اليوم في حال فاز في الانتخابات وحافظ على احتكار حكومته السلطة، خصوصاً أن أردوغان يتدخّل في كل كبيرة وصغيرة في شؤون الحكومة وكواليس الحزب.
الخطر الكامن
تبدو هذه الانتخابات مسألة حياة أو موت بالنسبة لأردوغان، فبعد تجارب عدة من خوض الانتخابات بأريحية، لا يزيد التحدي فيها عن رفع نسبة التأييد له ولحزبه من دون أي منافسة تذكر من المعارضة، يواجه أردوغان اليوم التحدّي الحقيقي الأول لسلطانه وصلاحياته. ففي حال سقوط الحكومة واضطرار حزب العدالة والتنمية للدخول في تحالف حكومي مع حزب آخر، فإن ذلك سيعني طلاقاً بائناً بين أردوغان والحكومة الجديدة التي لن يقبل فيها الشريك الجديد هيمنة أردوغان وسيعمل على تقييد صلاحياته.
هذا من جهة، من جهة أخرى – وهنا الخطر الحقيقي بالنسبة لأردوغان، فإن وصول حزب جديد إلى السلطة سيكشف الكثير من المستور الذي حافظ على سريته حزب العدالة والتنمية خلال ثلاثة عشر عاماً من الانفراد بالحكم والسيطرة على مؤسسات الدولة، من تقارير مالية، وأوامر سرية للاستخبارات والجيش والقضاء، وهي تبدأ من قضايا الفساد الحكومي والتبذير، ولا تنتهي عند أسرار عمليات الاستخبارات لدعم فصائل مسلّحة تقاتل على الأرض السورية. ما سيشكِّل صداعاً كبيراً لأردوغان أو يحوّله على الأقل إلى ورقة ابتزاز بيد الشريك الجديد في الحكومة لإبعاد أردوغان عن التدخُّل في شؤون الحكومة والانزواء في قصره.
البعض يرى في دخول شريك إلى الحكومة فرصة لتغيير سياسة تركيا الخارجية في ما يتعلق بمصر وسورية والعلاقة مع تنظيم «الإخوان المسلمين»، بل حتى في العلاقة مع الغرب والاتحاد الأوروبي، وهو ما لن يتحقق إلا في حال تحجيم دور أردوغان وصلاحياته. ناهيك عن الأسئلة الكثيرة عن مصير الملف السوري الذي تلعب تركيا دوراً أساسياً فيه، فأحزاب المعارضة المرشّحة للتحالف مع حزب العدالة والتنمية في الحكومة الجديدة ترفض في شكل قاطع دعم المسلحين في سورية وتؤيد حلاً سياسياً توافقياً، كما ترفض لعب تركيا على وتر «القيادة السنّية» في المنطقة أو رعاية ما يُعرف «بالاسلام المعتدل» وتياراته.
وعلى صعيد حزب العدالة والتنمية ومستقبله السياسي، فإن كثيراً من القيادات التي شاركت في تأسيس الحزب وساهمت في تقويته وزيادة شعبيته، لن تقبل أن ينتهي الأمر بحزبها إلى خسارة احتكار السلطة على رأي نائب زعيم الحزب بولنت أرينش الذي قال: «إننا لم نجد هذا الحزب في الشارع ويهمنا أمره ومستقبله»، خصوصاً بعد أن حيّدها أردوغان وأحاط نفسه بالكثير من «المتلقين» على حد وصف تلك القيادات وكثير من أنصار الحزب. لعل هذا الأمر هو ما دفع زعيم الحزب الحالي أحمد داود أوغلو إلى التعهُّد بالاستقالة من زعامة الحزب في حال سقوط حكومته في الانتخابات، وذلك أمر بدهي، إذ إن تلك القيادات لن تغفر له ذلك وستحمّله وأردوغان مسؤولية تراجع شعبية الحزب، وستدعو فوراً إلى اجتماع عاجل لكوادر الحزب من أجل المحاسبة والعمل على تغيير ميزان القوى فيه، ليعيد التاريخ نفسه ربما، ومثلما خرج أردوغان من عباءة نجم الدين أربكان وحزب الفضيلة، قد تخرج تلك القيادات من عباءة أردوغان هذه المرة، وقد يشهد الحزب انقلاباً أبيض أو يدخل في صراع داخلي يُجهِز على ما بقي له من شعبية ومكانة. وليس عبثاً أو من قبيل المصادفة ظهور مقالات من صحافيين موالين للحكومة تنتقد، ولو بخجل، أردوغان وتحمّله مسؤولية تراجع شعبية الحزب بسبب تدخّلاته الكبيرة في سياساته وهيمنته على أجهزة الدولة وتهميش دور رئيس الوزراء داود أوغلو.
في المقابل وفي حال تحقُّق المفاجأة ونجاح الحزب الحاكم في الاحتفاظ بسيطرته منفرداً على الحكم، فإنه سيواجه هذه المرة تمرُّداً كردياً غاضباً، مع تهديد حزب الشعوب الديموقراطية، الممثل الأكبر للأكراد على الساحة، بتشكيل «برلمان ديار بكر» وإعلان الحكم الذاتي من طرف واحد في حال بقي الحزب خارج البرلمان، ناهيك عن انهيار الثقة بينه وبين الحكومة، بعد تجميد أردوغان عملية السلام مع عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني لأسباب انتخابية محضة، وتراجعه عن وعوده التي قطعها، وإن أشار بخجل إلى أنه مستعد للعودة إلى الحوار بعد الانتخابات.
الخريطة الحزبية
قبل أسبوع من الانتخابات أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أن شعبية الحزب الحاكم تسمّرت عند الرقم 41 في المئة، مقابل 26 في المئة لحزب الشعب الجمهوري، و18 في المئة لحزب الحركة القومية و10 في المئة لحزب الشعوب الديموقراطية، وذلك على رغم حشد أردوغان والحكومة جميع قدرات وإمكانات الحكومة والدولة لدعم حملتهما الانتخابية، بما في ذلك خروج أردوغان عن القَسَم الذي أدّاه عند توليه الرئاسة بالوقوف على الحياد وعدم التدخُّل في السياسة الداخلية، وخروجه إلى الساحات طالباً من الناخبين التصويت للحكومة. ويقول بعض أعضاء الحزب الحاكم في صوت منخفض «أنه كلما نزل أردوغان إلى الساحات تراجعت شعبية حزبنا» وهو أمر لم يكن أحد يتوقعه، لكن المؤشرات تؤيد ذلك، فشعبية الحزب الحاكم كانت تلامس 50 في المئة قبل أن يتدخّل أردوغان في شكل سافر على خط الحملات الانتخابية، ويبدو أن الناخب انزعج من ضرب أردوغان القانون بعرض الحائط والدستور، وما عادت وعوده الانتخابية تُقنع الناخب الذي يشعر بقرصة الاقتصاد في جيبه وعمله، كما أن كثيرين عبّروا عن انزعاجهم من تهميش أردوغان دور أحمد داود أوغلو في شكل صارخ ومن دون أي اكتراث، وبات الحنين لحزب العدالة والتنمية القديم طاغياً في كثير من المناسبات حين كان المجال مسموحاً للنقاش والسجال وتعدد الآراء واحترام الدستور والقانون، والسياسة الخارجية المنفتحة على الجيران والداعمة الاقتصاد، وهو حنين يزعجه تحوّل أكبر حزب في تركيا إلى حزب الرجل الأوحد.
كما أن هذه الانتخابات تشهد للمرة الأولى تنافساً سياسياً حقيقياً على برامج اقتصادية وسياسية طموحة تزاحم خطط الحكومة ووعودها، فحزب الشعب الجمهوري بزعامة كمال كيليجدار أوغلو خلع عنه رداء الأتاتوركية المتطرفة ويسعى إلى التصالح مع المتديّنين واليمينيين، وقد خرج ببرنامج اقتصادي طموح أحرج الحكومة التي لم تخرج هذه المرة بجديد، وباتت تكتفي بتكذيب وعود الآخرين وانتقادها.
كما أن حزب الشعوب الديموقراطية خلع عنه هو الآخر الرداء الكردي الضيق وخرج في حلة جديدة ترفع شعار «مظلومية الأقليات في تركيا»، فما عاد الحزب أسير أصوات الأكراد في جنوب شرقي تركيا، إنما بدأ يكسب الأصوات في إسطنبول والأناضول وحتى الساحل الغربي، بل تحوَّل الحزب إلى قبلة جميع الغاضبين من الحكومة والساعين لإسقاطها، لعلمهم أن هذا الحزب يمثل بيضة القبان في هذه الانتخابات، فجمع أصوات العاتبين على الحكومة من التيار اليميني، وتيار اليسار، إضافة إلى مجموعة أكبر من الأكراد الذين فقدوا أملهم بجدية الحكومة في حل المسألة الكردية بعد نفي أردوغان الأخير «وجود مشكلة كردية في تركيا». أما حزب الحركة القومية فهو على حاله من دون تغيير مع زعيمه المحنك دولت باهشلي الذي لا يبذل جهداً يُذكر في الدعاية الانتخابية لحزبه، لعلمه أن القوميين واليمينيين الناقمين على سياسة أردوغان الكردية ودخوله في مفاوضات مع أوجلان سيأتون إليه خاضعين من دون أي مجهود يبذله، فهو راض عن نسبته ولا يطمح لأكثر منها.
ويبدو واضحاً في استطلاعات الرأي تململ الشارع من هيمنة أردوغان على جميع مؤسسات الدولة بما فيها القــضاء، وعدم إعـــطائه أجوبة مقنعة على تهم الفساد التي تكاثرت أخيراً، إضافة إلى العامل الاقتــصادي الذي يلـــعب للمرة الأولى ضد مصلــحة الحكومة، كما يــبدو أن إنجازات حكومة العدالة والتنــمية، التي لا يستطيع أحد إنكارها، قد طواها النسيان مع تراجع الإصلاحات وعدم خروج الحكومة بشيء جديد ينعشها، فالإنجازات والإصلاحات كما الزرع، تموت إن لم تستمر الحكومة في تنميتها، فما بالك بتراجعها والعودة عن جزء منها؟!
مفاجآت وقلق من التزوير
وتبقى الساعات الأخيرة قبل الانتخابات حبلى بالكثير من المفاجآت، فالمعارضة تعد بتفجير مفاجآت جديدة حتى آخر لحظة، وكذلك أردوغان، والحديث عن احتمالات التزوير من الحكومة لا ينقطع، بل يسيطر على المشهد الانتخابي لمصلحة رفع درجة التوتر والتحفُّز، خصوصاً بعد تجربة التزوير المريرة التي شهدتها الانتخابات البلدية في أنقرة، والتي أزاحت مرشح حزب الشعب الجمهوري في آخر لحظة عن منصب رئيس البلدية وثبّتت رئيسها القديم من حزب العدالة والتنمية مليح غوكشيك، مع غض بصر اللجنة العليا للانتخابات عن بعض التجاوزات التي قالت أنها لا ترقى لتغيير النتيجة، علماً أن الفارق بين المتنافسين كان ضئيلاً جداً.
لذا، يدفع الاتحاد الأوروبي هذه المرة بمجموعة أكبر من المراقبين المختصين بمجال الحكم على الانتخابات إلى تركيا، في إشارة واضحة إلى وجود شكوك قوية لدى الاتحاد في نزاهة الانتخابات، خصوصاً بعد الخروق الكبيرة التي ارتكبها أردوغان خلال الحملة الانتخابية، والضغط غير المسبوق على وسائل الإعلام من طرفه.
كما تتحفّز الأحزاب كلها لمراقبة عملية الاقتراع في كل مراحلها، لشكّها في نزاهة اللجنة العليا للانتخابات التي تتكوَّن من قضاة عدة، بعد تدهور سمعة القضاء في تركيا، وإن كانت الأحزاب قد تجاوزت عن بعض الشوائب التي ظهرت في الانتخابات البلدية قبل عامين، فإنها اليوم غير مستعدة أبداً للتسامح في أي صغيرة مع حدة المنافسة ورفع سقف التوقُّعات لديها، ما يجعل كثيرين قلقين من اندلاع اشتباكات خلال العملية الانتخابية، وما يجعل الأمر محزناً ومخجلاً في آن واحد في بلد مثل تركيا حافظت على نزاهة الانتخابات حتى في عهود الوصاية العسكرية. وفي انتظار ساعة الحسم مساء السابع من حزيران (يونيو) الجاري، ينتظر كثيرون ما قد يخبئه أردوغان من مفاجآت للخروج من المأزق الحالي، فالمقرّبون منه والعارفون بأمره يُدرِكون جيداً أنه لا يعرف الاستسلام أو التراجع.