بعد 30 سنة من الصراعات الدموية، على الخيارات والسلطة والتحالفات والأحجام، قرّر ميشال عون وسمير جعجع إعادة تأهيل علاقتهما المعقدة، وإخراجها من «زنزانة» الماضي المثقل بالعداء والدماء، على أن الأيام والتجارب المقبلة هي التي ستُبين ما إذا كان «الإفراج» مؤقتاً ام دائماً.
ولئن كان لقاء الرابية بين القطبين المسيحيين قد تولّى تظهير «إعلان النيات» الذي تضمّن عرضاً للعناوين المتفق عليها، فإن المحكّ يبقى في حقيقة «النيات المضمَرة»، والمسكونة بشياطين التفاصيل.. والحسابات.
بدا واضحاً أن نص الإعلان الذي تلاه كل من النائب ابراهيم كنعان وملحم رياشي قد اعتمد على توازنات دقيقة في الشكل والمضمون، بحيث لم يكن صعباً التقاط نَفَس «القوات اللبنانية» في بعض البنود ونَفَس «التيار الوطني الحر» في بنود أخرى، وإن يكن هناك في أوساط حلفاء عون من اعتبر أن الأرجحية في الورقة هي لأدبيات «التيار».
ولعل ورقة النيات تشبه في بعض جوانبها «الباب الدوّار» الذي يسمح لكل من الطرفين أن يخرج من النص ويدخل اليه بسلاسة، على ان التحدي الأهم امامهما يتمثل في مدى قدرتهما على الالتزام بتفسير واحد للنيات المعلنة، وإخضاعها لترجمة سياسية مشتركة، متخففة من التأويلات والاجتهادات.
ويحمل اللقاء في توقيته إيحاء بأن «الثنائي المسيحي» يسعى في اتجاه استعادة المبادرة والانتقال من ضفة ردّ الفعل الى ضفة الفعل، بالتزامن مع احتدام الاشتباك الداخلي حول التعيينات الأمنية وتشريع الضرورة، وزيارة الرئيس تمام سلام الى السعودية.
ويبدو واضحاً في الاسباب الموجبة للقاء ان المخاطر والتحديات التي تواجه الوجود المسيحي في لبنان والشرق باتت داهمة إلى الحد الذي لم يعد بمقدور عون وجعجع تجاهله، أو المضي في مواجهته وفق القواعد القديمة.
ثم ان الرجلين اطلعا على نتائج معبرة لاستطلاعات رأي مسيحية حول حوارهما، أظهرت أن قرابة 97 بالمئة من الذين تمّ استطلاعهم يرفضون استمرار الثنائية الصدامية بين «القوات» و «التيار»، وبالتالي فإن عون وجعجع أدركا ان إخفاقهما في تنظيم الخلاف، بالحد الادنى، سيولد نقمة واسعة عليهما في الشارع المسيحي القلق.
وقبل كل ذلك، شعر القطبان المسيحيان أن بقاء فجوة التناقض بينهما، على اتساعها السابق، يعني أنهما سيظلان الحلقة الأضعف في المعادلة الداخلية والتوازنات الميثاقية، بينما يؤدي «إقفال» الطوائف في الساحات الأخرى الى منحها «امتيازات» في السلطة.
ولا يتوهم الجانبان ان «إعلان النيات» يرقى بأي حال الى مستوى التحالف السياسي، بل إن طموحهما هو ان ينتج هذا الإعلان رؤية مشتركة حيال قضايا وجودية وتأسيسية، من دون ان يكون مطلوباً منه الغاء التمايزات والخصوصيات التي ستظل حاضرة في الخطاب والسلوك.
وكان ملاحظاً ان اعلان النيات لم يأت على ذكر «حزب الله» أو «تيار المستقبل» في المباشر، موحياً بانه ليس موجهاً ضد الآخرين، وبأن أياً من طرفيه ليس بصدد إعادة النظر في تحالفاته الاستراتيجية.
ولما كان الاستحقاق الرئاسي يشكل الاولوية الملحة في هذه المرحلة، فان الاختبار الحقيقي للنيات المعلنة والمستترة لدى عون وجعجع، يتمثل في مدى نجاحهما في إنتاج مقاربة مشتركة لهذا الاستحقاق، تتجاوز المواصفات الى الاسم.
ومهما يكن، فإن الأكيد هو أن لقاء عون - جعجع من شأنه ان يمهد لرسم مشهد مسيحي جديد، ستكتمل معالمه مع تولي النائب سامي الجميل رئاسة «حزب الكتائب» الذي قد يكون الضحية الأكبر للتلاقي بين معراب والرابية، بل ان جعجع لم يتردد في القول صراحة من على منبر الرابية ان نتيجة الاستفتاء الذي يطالب به عون معروفة سلفاً، وهي أن «التيار» و «القوات» يحظيان بالشعبية الأكبر في الساحة المسيحية.

«الإعلان» في «الميزان»

ولكن، ماذا عن الحسابات التفصيلية لكل من عون وجعجع؟
بالنسبة إلى عون، يمكن القول إن الحد الادنى من التفاهم مع جعجع سيسمح له برفع فرص وصوله الى الرئاسة، على قاعدة «الرئيس القوي» الذي تصدّر إعلان النيات، خصوصاً ان خصوم الجنرال كانوا يطرحون عليه باستمرار ما يفترضون أنه شرط تعجيزي لقبول انتخابه، وهو حصوله على دعم رئيس حزب «القوات».
وإذا كان من المبكر الذهاب بعيداً في التوقعات، والافتراض من الآن أن جعجع يمكن ان يتحول من «لغم سياسي» على طريق عون نحو بعبدا الى «كاسحة ألغام»، إلا أن تقدّم الحوار بينهما يجعل الأمر يتدرّج على الأقل من مرتبة «المستحيل» الى مرتبة «الصعب».
وما جرى أمس في الرابية سيعزّز بشكل او بآخر صورة «المرشح الوفاقي» التي يسعى عون الى الترويج لها، ولن يكون هناك بحوزته دليل أبلغ من تقاربه مع الخصم اللدود سمير جعجع، حتى يثبت أنه قادر فعلياً على مدّ اليد في كل الاتجاهات واستيعاب الجميع، وفق مفهوم «الوسطية القوية» التي تنطوي على نكهة ولون من دون أن تكون نافرة أو مستفزة.
كما أن عون سيستفيد من التقارب مع جعجع لتحسين شروط معركة تحصيل الحقوق المسيحية في الدولة، تحت سقف الشراكة والتوازن المندرجين في إعلان النيات، ما يمكن أن يحشر أو يُحرج «تيار المستقبل» الذي لم يكن مسروراً، على الأرجح، بمشاهدة جعجع وهو يضع يده على كتف عون تحبباً، خلال المؤتمر الصحافي المشترك بينهما.
أما جعجع فله اعتباراته أيضاً.
يذهب بعض «الخبثاء» إلى الافتراض ان رئيس «القوات» يضمر من وراء تصالحه مع عون، وبالتالي مع القاعدة الواسعة لـ «التيار الوطني الحر»، تسهيل إمكانية وراثته لجزء من هذه القاعدة، وفرض نفسه الزعيم الأول للمسيحيين.
لكن وبمعزل عن محاكمة النيات، فإن جعجع الذي يعرف ويعترف في قرارة نفسه بأن تحالفه مع «تيار المستقبل» لم يساهم في تعزيز حضوره النيابي أو الوزاري داخل الدولة، بات يشعر بأن تفاهمه مع عون سيكون أكثر إنتاجية وفائدة، وسيسمح له بتعزيز موقعه التفاوضي مع الحليف قبل الخصم.
وإذا كان جعجع يدرك أن عون يتقدم عليه حالياً في الفرصة الرئاسية، إلا انه يعتقد ان قاعدة «الرئيس القوي» التي جرى تثبيتها في «الإعلان» قد تجعله من المرشحين الجديين في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

قصة الزيارة

بعد اجتماع «تكتل التغيير والاصلاح»، وصل مسؤول الإعلام والتواصل في «القوات اللبنانية» ملحم رياشي الى الرابية، للقاء النائب ابراهيم كنعان، بناء على موعد مسبق، تحضيراً لوصول فريق أمني من «القوات»، بهدف الاستطلاع الميداني والتنسيق مع أمن الرابية، تمهيداً للزيارة التي كان يُعتقد أن جعجع سيقوم بها في وقت لاحق.
لم يكن أحد في مقرّ الجنرال على علم بأن جعجع في طريقه الى الرابية، وبالتالي فإن عدداً من العاملين المولجين بشؤون الإعلام والضيافة غادروا المقر، فيما صعد عون الى غرفته لأخذ قسط من الراحة.
في هذه الأثناء، كان كنعان «يتمشّى» مع رياشي، ويبحث معه في التفاصيل اللوجستية المتعلقة بالزيارة المرتقبة لجعجع في الأيام المقبلة.
بعد مرور بعض الوقت، سأل كنعان الزائر القواتي: «وين صاروا جماعتك..».
وما هي إلا دقائق حتى تبلّغ كنعان من حرس الرابية ان السيارة التي تقل فريق أمن «القوات» وصلت.
ابتسم رياشي، وقال لشريكه في المفاوضات الصعبة: وصل الحكيم..
لم يصدّق كنعان ما سمعه، وهو الذي اعتاد على مزاح رياشي. لكن الأخير أصرّ على ان جعجع «أصبح هنا».
وما هي إلا لحظات حتى هتف مسؤول الحماية في الرابية العميد سليم فغالي: وصل جعجع.. وصل جعجع..
وبالفعل، ما لبث رئيس «القوات» أن خرج من السيارة وهو يبتسم، فيما كان كنعان المذهول لا يزال تحت وقع الصدمة. ضحك جعجع، وقال له: مش أحسن هيك؟
سارع كنعان إلى استقبال جعجع، ورافقه الى الصالون الكبير، وهو يردّد «ماذا فعلت؟»، فيما صعد بعض مرافقي الجنرال إلى غرفته لإيقاظه.
ارتدى عون ثيابه على عجل، ونزل إلى الصالون، حيث بادره رئيس «القوات» بالقول: شو رأيك بالمفاجأة؟ ابتسم الجنرال، وأجاب: «كنت أتوقّع مفاجآت، بس مش لهالدرجة..».