عبارة أليمة يرددها اللبناني بكثير من المرارة و اﻷسى ، و هي تعكس الحال المزرية التي وصلت إليها دوائر الدولة الحكومية ، و هذا كلام لا مبالغة فيه أبداً ، حيث تحولت هذه الدوائر إلى بؤر للفساد ، لا أمل بإصلاحها في القريب العاجل .
لقد أصبحت هذه المؤسسات موئلاً للصوص ، و مرتع للرشاوى و المحسوبيات ، و ليس هناك من رقيب أو حسيب .
و ما إن تدخل إلى إحدى هذه المؤسسات حتى تستقبلك الوجوه الكالحة و النفوس المريضة ، فترى الموظف يتصرف و كأنه ملك في سلطانه ، يصول و يجول ، و يفترسك بنظرته اﻹستعلائية قبل أن يفترسك بأسنانه ، و يأخذه الغرور و الزهو ، ما يذكرك بعجائب الدنيا و إبداعاتها .
و إذا ما ألقيت عليه التحية ، نظر إليك شزراً و لؤماً ، ثم رد عليك تحيتك ( إذا ردها أصلاً ) بشكل يشعرك أنك تستجدي السؤال ، و لمَ لا ، فلعله يعتبر رد التحية تفضلاً و منّة .
أما إذا استفسرت عن كيفية إنجاز معاملتك ، فإنك ستقابل بصرخة مدوية تجعلك ترتعد خوفاً ، و يأتيك الجواب دائماً : ألا ترى أني مشغول ، قف جانباً و إنتظر .
يفاجئك الرد ، فتبحث جاهداً عمّ يشغل هذا الموظف أو هذه الموظفة ، فلا تجد له شاغلاً ( أو لها ) سوى مخابرة هاتفية مع أحد اﻷقارب أو اﻷصحاب ، هذا عدا عن إرتشاف القهوة الذي قد يستمر حتى آخر الدوام .
و ما يزعجك أكثر ، تلك الضحكات التي تصاحب تلك المكالمات ، خاصة مع تأكدك أن المخابرة تتم على حساب الدولة و ماليتها .
أما استحكام البيروقراطية ، فحدث و لا حرج ، حيث تشعر بالغثيان من كثرة التواقيع و اﻷختام ، و إذا ما حدث و تم اكتشاف نقص بسيط في المعاملة ، فتلك هي الطامة الكبرى ، حيث تسود الدنيا في وجهك و تشعر باﻹختناق ، فتتلفت باحثاً عن ناصر أو مغيث ، فلا تجده إلا في السماسرة المتلهفين للإنقضاض على أي ضحية يجدونها أمامهم .
و لكن المفارقة الغريبة أنّ هذا السمسار الجلاد ، هو نفسه من يشكل خشبة الخلاص لكل المآزق التي قد تقع فيها ، فتقول في نفسك : حبذا لو كان السماسرة هم أنفسهم الموظفين ، إذاً لإرتحنا و أرحنا .
و لا تكتمل المهزلة إلا بغياب الموظف المسؤول ، أو باﻷحرى ، بتهربه من دوامه ، فتفتش عبثاً عمّن يقوم مقامه فلا تجد ، فتضطر إلى العودة مرة ثانية ، و أحياناً مرات كثيرة .
و يحدث كثيراً أن يكون الموظف المعني في اجتماع طارئ ، قد يمتد ساعات و ساعات ، فيذهب انتظارك سدىً ، و يرتفع ضغط دمك حتى يصل السماء السابعة .
على أنّ كلّ ما تقدم في كفة و مسألة الإزدحام في كفة أخرى ، حيث ترى العشرات من المواطنين ، الذين لا يعرفون دوراً و لا نظاماً ، يتدافعون بغية الدخول إلى إحدى الغرف ، فتشعر أنك في يوم الحشر ، و تسأل نفسك : كيف لموظف واحد أن يستطيع تصريف أمور هذه المظاهرة ، و في حال استطعت الوصول ، و الدخول بشق النفس ، فإنك ستسمع من هذا الموظف جملة واحدة :
معاملتك ينقصها توقيع فلان و ختم علتان و إمضاء بطيحان .
عندها فقط يحبب إليك الموت ، فتلعن حياتك و تلعن بلدك ، و تكر سبحة اللعنات ....
من يدخل هذه الدوائر فهو حتماً مفقود ، و من يخرج منها ، فهو حتماً مولود .
و أخيراً ، فأن تولد عربا ً فهذا بحد ذاته تعبير عن الغضبة اﻹلهية
و أما أن تولد لبنانياً فهذا يعني أنك لن ترَ العيش الكريم أبداً