يُعدّ ملف الكهرباء الأول من ناحية الفساد والهدر في لبنان. وهذا ما يؤكده البنك الدولي الذي، واستناداً إلى استراتيجيته الجديدة، سيعمد إلى سحب الاعتمادات المُخصّصة للبنان لصالح دوَل إقليمية أخرى. وهذا الأمر ستكون له تداعيات سلبية على عدة أصعدة.
ملف «العار»، هكذا يُمكن وصف ملف الكهرباء في لبنان. نعم إنه عار لأنّ ما يحصل لم ولن يحصل في أي بلد في العالم. 2 مليار دولار سنوياً هو حجم تحويلات وزارة المال إلى مؤسسة كهرباء لبنان، و80 مليار ليرة هي خدمة الدين العام الناتجة عن الكهرباء، كل هذا مقابل 1300 ميغاوات لا تكفي المواطن على مدار الـ 24 ساعة، ما يدفعه إلى دفع ما يزيد عن مليار دولار لأصحاب المولّدات!
لكن هذا ليس الأتعَس في الحكاية، فكارتيلات النفط التي تستورد الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان لها حصتها وذلك عبر بيع الفيول بأسعار عالية نسبة إلى
الأسواق المجاورة، ناهيك عن عملية الغش التي تطال الدولة من خلال ترك بواخر الفيول في عرض البحر تحت أشعة الشمس الحارقة. وهذا الأمر يزيد حجم الفيول في الخزّانات ويُخسّر الدولة اللبنانية ما يزيد عن 75 مليون دولار سنوياً.
من ناحية أخرى، أتت فاطمة غول بهدف أن تحلّ مكان الوحدات التي تستوجب الصيانة، وإذا بها أصبحت وحدة بحد ذاتها لا يُمكن من الآن وصاعداً التخلّي عنها. وفي المقابل لم تتم صيانة الوحدات الموجودة.
قطاع فاسد
لن نتجنّى على أحد بقولنا إنّ هذا القطاع يُجسدّ الفساد في الدولة اللبنانية. منذ عقود والوضع في هذا القطاع على حاله ولم يتمّ إجراء أيّ استثمارات ولا حتى صيانة الموجود. لماذا لا تتم المحاسبة؟ من يستفيد من هذا الهدر والفساد؟ ألا يستحق ملف مثل هذا الملف أن يهتمّ به القضاء اللبناني؟ هناك ما لا يقلّ عن 25 مليار دولار من ديننا العام يأتي من هذا القطاع.
من الواضح أنّ هناك الكثير من أصحاب النفوذ الذين يمنعون المحاسبة ويعرقلون كل عملية للَجم الهدر في هذا القطاع. حتى أنّ الشك يأخذنا إلى الإعتقاد أنّ مُعرقلي ملف النفط والغاز هم المستفيدون من الوضع الحالي في قطاع الكهرباء!
المؤسسات الدولية تُحذّر
هذا الواقع واكبه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عبر السنين. وفي كل مرّة كانت هناك حكومة جديدة، كان موفدو هذه المؤسسات يزورون رؤساء الحكومات والفعاليات السياسية لوَضع حد لحالة قطاع الكهرباء في لبنان.
وكل هذا لم يؤت بنتيجة، ما دفع البنك الدولي إلى اعتماد استراتيجية جديدة تنصّ على سحب اعتمادات المشاريع التي لا تتقدم، وسحب اعتمادات الدول التي لا تتجاوب مع البنك الدولي، وذلك بهدف استخدامها في دول مجاورة أخرى. هذه الاستراتيجية التي ستُبصر النور في الصيف المقبل تأخذ شرعيّتها من الحاجة المُتزايدة لاستثمارات في دول المنطقة نتيجة الحروب التي تعصف بها.
كذلك الأمر بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي الذي حذّر الحكومة من المضيّ بسلسلة الرتب والرواتب مع ازدياد العجز الناتج بالدرجة الأولى عن قطاع الكهرباء، إذ إنّ هذا الأخير يستنزِف أكثر من ثلث مدخول الخزينة.
موقف المصارف
في تصريح أصدرته هذا الأسبوع، حذّرت جمعية المصارف من أنّ العجز المُتوقّع في مشروع موازنة العام 2015 هو عجز كبير وسيكون من الصعب تمويله.
وإذا كان تحذير المصارف غير جدّي من ناحية أنه لن يكون بإمكانها وقف تمويل الدولة بسبب نسبة التعرّض لدين الدولة (50% من مجمل الدين العام يعود للمصارف التجارية)، إلّا أنّ هذا التحذير يحمل في طيّاته صرخة لمجلس الوزراء بأن يرأف بالدولة وبالمصارف اللبنانية. فكلّ عجز مُموّل من قبل المصارف سينعكس سلباً على التصنيف الإئتماني لهذه الأخيرة وسيزيد كلفة الإقتراض عليها، وبالتالي على الدولة اللبنانية.
الحلول لقطاع الكهرباء موجودة
من الواضح أنّ تجربة شركة كهرباء زحلة أثبتت نجاحها مع كهرباء مؤمنة 24 ساعة على 24. وإذا كانت هذه التجربة قد نجحت، فلماذا لا يتمّ تعميمها على كل الأراضي اللبنانية على أساس توزيع لامركزي؟
من الواضح أنّ البدء بتعميم هذا المشروع يكون على أساس مناطقي بدءًا بمنطقة بيروت مثلاً وصولاً إلى الأطراف. وبهذا يتمّ التخلي تدريجاً عن المعامل الحالية، وبالتالي يتنفّس المواطن الصعداء مع وقف نزف خزينة الدولة ومع وقف التلوّث الذي تُسبّبه المعامل الحالية، وعلى رأسها معمل الزوق.
تحرير القطاع حجر أساس
مهما كانت نوعية الحلّ الذي من الممكن أن تعتمده الحكومة اللبنانية في المستقبل، يبقى تحرير قطاع الكهرباء هو الآلية القانونية الوحيدة التي تضمن عدم تكرار التجربة الحالية. هذا التحرير يتمّ عبر إقرار قانون الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص. ويتمّ بذلك تقسيم قطاع الكهرباء إلى ثلاثة أقسام: إنتاج، توزيع وتسويق على أن تُمنع الشركات من التواجد في قطاعين أو أكثر إن بشكل مباشر أو غير مباشر.
هذا الأمر يسمح بكسر الاحتكار ويدفع إلى خلق تنافسية في سوق الكهرباء شبيهة بتلك التي توجد في بريطانيا حيث يُمكن للمواطن أن يغيّر المسوّق بكل سهولة إذا كان هناك من مسوّق آخر قادر على تقديم سعر أقل من سعر المسوّق الأول، وذلك من دون أيّ تداعيات مالية.
الجدير بالذكر أنّ سعر الكهرباء في بريطانيا هو سعر سوق حيث يتمّ التداول به في سوق شبيهة بالأسواق المالية، وهذا بحسب رأينا يُشكّل قمّة الشفافية مقارنة بتركيبة أسعار في لبنان لا أحد يعرف خفاياها. فبحسب وزارة الطاقة والمياه، تبلغ كلفة الكيلوات الواحد 255 ل.ل. 62,84% منها فيول و37,16% كلفة توليد. وتُقدّر الوزارة الخسارة بـ 40% (15% خسارة تقنية، 20% خسارة غير تقنية، و5% فواتير غير مُحصّلة).
وهذه الأرقام لا تدلّ بأيّ شكل من الأشكال على حقيقة الواقع من ناحية أنّ السعر الأعلى في العالم لتوليد 1 كيلوات هو 62 ليرة لبنانية مقارنة بـ 255 في لبنان. إذاً، من أين يأتي هذا الفرق؟
في الختام، نجح لبنان في خلق مؤشر جديد لقياس الفساد ويتمثّل بنسبة كلفة الكهرباء إلى الناتج المحلي الإجمالي. وإنّ مقارنة الدول مع بعضها البعض تُظهر أنّ لبنان يتربّع على عرش الدول من دون منازع.