لم يكن أحد من الطرفين يتوقع أن تبدد قمة كامب ديفيد الخلافات في وجهات النظر أو أجواء عدم الثقة. أو أن تسقط هواجس أهل الخليج من مواقف الرئيس باراك أوباما حيال إيران. ومن مدى التزامه بمواقفه ووعوده وسياساته، سواء في العراق أو سورية أو اليمن. لم يكن أحد ينتظر أن تتوحد الرؤى حيال الأزمات والقضايا التي تشغل المنطقة. في المقابل لم يكن أحد يتوقع أن تفشل اللقاءات في تحقيق الحد الأدنى من التفاهمات. وأهم ما انتهت إليه هو البحث في تأسيس «شراكة استراتيجية جديدة» بين أميركا ودول مجلس التعاون، لتحسين التعاون الدفاعي والأمني وسرعة الإمداد بالأسلحة ومكافحة الإرهاب، والأمن البحري، والأمن الإلكتروني، والدفاع ضد الصواريخ البالستية. لكنها لم تعلن هنا قيام هيكل مشترك يتمتع بميزات وأدوات تتيح له التحرك السريع لمواجهة أية أخطار. وإن كان الرئيس باراك أوباما أكد أن بلاده ستدرس استخدام القوة العسكرية للدفاع عن دول مجلس التعاون إذا تعرضت للتهديد.
التأسيس لشراكة جديدة يعني أن العلاقات الأميركية - الخليجية أمام صفحة مختلفة في تاريخ طويل من العلاقات الخاصة سياسياً وعسكرياً والتي ترجمت في أكثر من محطة مصيرية. يعني أن الصفحة القديمة طويت وانتهت صلاحيتها. وهذا ما أقلق أهل الخليج في الفترة السابقة. لقد كان الأمن والاستقرار في منطقة الخليج على مر عقود هدفاً في السياسات الأميركية. وعبر عنهما صراحة إعلان الرئيس جيمي كارتر في «المبدأ» الذي رفع أمن الخليج وممرات الطاقة وحقول النفط إلى مصاف الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. وانتهى بإنشاء «قوة التدخل السريع». وجاء إعلان «المبدأ» إجراء احترازياً بعدما تقدم الاتحاد السوفياتي نحو المياه الدافئة إثر غزوه أفغانستان. وبعد إبرامه معاهدة تعاون وصداقة مع العراق. وعندما أطاحت «الثورة الإسلامية نظام الشاه، ورفع الإمام الخميني شعار «تصدير الثورة». وترجم هذا الالتزام جلياً إثر غزو صدام حسين الكويت قبل 25 عاماً. فكانت حرب تحرير الكويت، ثم حرب إسقاط نظام البعث وغزو العراق.
حصل الرئيس باراك أوباما من قادة الخليج على هدفه الأول من اللقاء. حصل على مباركتهم لاتفاق شامل مع إيران على برنامجها النووي «يتيح الرقابة والتحقق ويبدد كافة المخاوف الإقليمية والدولية بشأن برنامج إيران النووي...». ولكن لم يشرح أحد من الطرفين مفهومه أو تصوره لمثل هذا الاتفاق. لم يقدم الأميركيون ولا الخليجيون العناصر أو الشروط المطلوبة للاتفاق . ومعروف مثلاً أن في المفاوضات بين إيران والدول الست، تبايناً في مواقف كل من الولايات المتحدة من جهة وفرنسا وغيرها من جهة أخرى. وحصل قادة التعاون من الرئيس الأميركي على تعهد بالتصدي معاً لأي «أنشطة إيرانية تزعزع الاستقرار في المنطقة». وتم التشديد على «ضرورة أن تتعاون إيران في المنطقة وفقاً لمبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام سلامة الأراضي بما يتفق مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وضرورة أن تقوم إيران باتخاذ خطوات فعلية وعملية لبناء الثقة وحل النزاعات مع جيرانها بالطرق السلمية». لكن الجانب الأميركي لم يحدد سبل التصدي لتدخل طهران في الشؤون الداخلية لعدد من الدول العربية. لم يقدم تصوراً لوقف هذا التدخل.
لذلك لم يتميز موقف الرئيس أوباما عن موقف ضيوفه حيال ما يجري في اليمن. أي «ضرورة بذل جهود جماعية لمواجهة تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية»، والانتقال سريعاً إلى «العملية السياسية من خلال مؤتمر الرياض برعاية مجلس التعاون ومفاوضات تشرف عليها الأمم المتحدة على أساس المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني الشامل وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة». بالطبع تعارض إيران هذا التوجه. والإجراءات التي مارستها عشية القمة في مياه الخليج، من التضييق على السفن في مضيق هرمز ومطاردتها في الخليج، إلى السعي لخرق الحصار الجوي والبحري على اليمن، تعطي صورة واضحة عن معارضتها هذه. وتؤكد استعدادها لرفع وتيرة الصراع والتحدي. وهو ما لا تريده واشنطن بالتأكيد. والسؤال مثلاً هل تتصدى السعودية للباخرة الإيرانية إذا أصرت على الرسو في ميناء الحديدة ورفضت الخضوع للتـــفتيش؟ وماذا سيكون موقف الإدارة الأمـــيركية؟ هـــل تلـــوح بالقوة كما فعلت قبل أسابيع عندما أرسلت حاملة طائرات إلى باب المندب لمنع باخرة إيـــرانــية من التقدم نحو ســـواحل اليـــمن؟ علماً أن الرياض لن تكون راغبة في وقف «العاصفة» ما لــــم يرضـــخ الحوثيون وحلفاؤهم ويعودوا إلى التزام المبادرة الخليـــجية ومخرجات الحوار... غير ذلك يعني فشل التحالف العربي الجديد في رفع التحدي بوجه إيران أولاً وأخيراً.
كذلك لم يقدم البيان جديداً في موقف الطرفين من قضايا المنطقة. كلاهما يحض الحكومة العراقية على «تحقيق مصالحة وطنية حقيقية من خلال النظر بصورة عاجلة في التظلمات المشروعة لجميع مكونات المجتمع العراقي». وكلاهما يؤكد العمل «للتوصل إلى حل سياسي مستدام في سورية ينهي الحرب ويؤسس لحكومة شاملة تحمي الأقليات العرقية والدينية وتحافظ على مؤسسات الدولة». ويؤكد أن الرئيس بشار الأسد «فقد شرعيته ولن يكون له دور في مستقبل سورية». لم يطرح الجانب الأميركي خطة للوصول إلى هذين الهدفين في العراق وسورية مثلاً. يعني ذلك استمرار الحال القائمة في هذين البلدين. لذلك يبدو أن الحرب على «داعش» في العراق تتعثر وقد تطول أكثر مما يتوقع. وقد حقق مسلحو التنظيم أخيراً اختراقات مهمة حتى وسط الرمادي. ولذلك لم يتوقع الرئيس أوباما حلاً أو تسوية للأزمة السورية خلال عهده!
بالطبع لا ترغب الولايات المتحدة في أن تقوم مقام أهل الخليج. لا تريد الانخراط في أي حرب جديدة في المنطقة. لذلك سعى الرئيس أوباما إلى هذه القمة لتوكيد ما لا يحتاج إلى توكيد، وهو الاتفاق على أن الحلول لأزمات الإقليم لا تحل إلا بالسياسة، كما جاء في البيان. فهو يدرك أن التصعيد بين السعودية وإيران وسباق التسلح في الإقليم قد ينتهيان إلى حرب واسعة ستجر إليها أميركا حتماً. وهو آخر الاهتمام بالشرق الأوسط في استراتيجية أطلقها مطلع ولايته الثانية، وكان مقدراً أن ينصرف إلى المحيط الهادئ... لكن هموم الشرق أعاقت وتعيق «انسحابه» من الإقليم. وهو إلى ذلك لا يرغب أن يتم وضعه أمام خيار إما أن يكون مع دول مجلس التعاون في مواجهة مكشوفة مع إيران، أو مع الأخيرة ضد الموقف الخليجي. ما يسعى إليه بكل السبل هو إنجاز اتفاق يوقف البرنامج النووي لإيران. وما أراد التوكيد عليه دائماً هو مسؤولية أهل الخليج في الدفاع عن أنفسهم. لا يريد عداء مجانياً ودائماً مع الجمهورية الإسلامية. يريدها جزءاً من المنظومة الإقليمية شريطة أن تنخرط في سياق المنظومة الدولية للمساهمة في الاستقرار ووقف التدخل في شؤون الآخرين. ووقف دعم بعض القوى الإرهابية، أو القوى والمكونات التي تهدد بحروب أهلية وتفكيك العرى الوطنية في هذا البلد العربي أو ذاك من البلدان الأربعة التي تبجحت طهران بأنها تدور في فلكها!
هذا الحرص الأميركي على احتواء إيران واستعادتها عنصراً إيجابياً في بناء المنظومة الإقليمية، واكبه التزام أميركي واضح بخطة عسكرية شاملة لتطوير منظومة دفاع صاروخي، وتمكين مجلس التعاون من القدرات العسكرية ما يسمح بمواجهة الأخطار والتحديات الإيرانية وغير الإيرانية. بالطبع كانت دول المجلس تنتظر مثل هذا التعهد لإصلاح الخلل في ميزان القوى الصاروخية خصوصاً بينها وبين إيران. مع أن ثمة مصادر بديلة. وشكل إطلاق «عاصفة الحزم» رسالة واضحة إلى أميركا وإيران معاً مفادها أن دول الخليج أخذت على عاتقها مواجهة الجمهورية الإسلامية. وأنها لن تتهاون أو تتردد أو تجبن في الدفاع عن مصالحها الحيوية وأمنها الوطني. وأنها يمكنها بالتفاهم مع دول مثل باكستان وتركيا... وحتى فرنسا وغيرها، أن توسع دائرة خياراتها وتحالفاتها واللجوء إلى مصادر قوة أخرى. كما يمكنها تحقيق توازن راجح لمصلحتها بترسيخ التحالف مع مصر والأردن والمغرب وغيرها من الدول العربية. بل أوحت أنها لا تخشى حصول إيران على القنبلة النووية، فهي أيضاً قادرة على الحصول على مثل هذا السلاح عند الضرورة. وتملك من الموارد ما يؤهلها لذلك. أي أنها لن تقبل ، أياً كانت الضغوط أو المبررات، بأن تعيش في ظل تهديد أو ردع خارجي. كل هذا لا يغيب السؤال هل يلتزم أوباما تعهداته أم يتقاعس بعد إبرام الاتفاق المتوقع مع طهران نهاية الشهر المقبل؟
يبقى أن على إيران التي تعارض الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة، ولا يسرها بالطبع أن تلتزم واشنطن حماية شركائها في المنطقة أن تدرك أنها المسؤول الأول عن شد الرباط بين هذا الوجود وأهل الخليج. ولولا سياساتها على مر عقود لما كان الخليجيون يحتاجون إلى قوى من الخارج تساعدهم على مواجهة أي تهديدات. وعليها أن تدرك أيضاً أن للولايات المتحدة والعالم الصناعي عموماً مصالح في المنطقة لا يمكن التهاون في الدفاع عنها. وفي الحروب التي شهدها الخليج في العقود الثلاثة الماضية، كان الهدف الأميركي الثابت منع أي قوة إقليمية أو دولية من الإمساك بالقرار النفطي.