لا يزال الواقع التاريخي يتحفنا بقواعد جوهرية ثابتة ، و عبَرٍ متواصلة ، تعكس ، بالدرجة اﻷولى ، سنناً مجتمعية حاسمة ، هي أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية التي لا تقبل الخطأ ، و التي تنسحب على كل زمان و مكان . و إذا كان الحراك اﻹجتماعي اﻹقتصادي هو حراك متغير ، متأرجح ، يعكس ظروفاً إنسانية معينة ، فإنّ سياقاته ، رغم ذلك ، تأخذ منحناً تاريخياً متوقعاً ، يفضي إلى إستنتاجات ، أو باﻷحرى إلى نتائج ، حتمية لا إستثناء فيها . و ليس أدل على ذلك ، ممّ يمر به العالم العربي ، أو بعضه ، في الوقت الراهن .
لقد كان من المتوقع أن تصل اﻷمور إلى ما وصلت إليه حالياً ، ﻷنّ إرتفاع وتيرة اﻷزمات ، في أيّ بلد من البلدان ، سيؤدي بالضرورة إلى خلل يستحيل تصحيحه ، فتصل الأمور ، و الحال هذه ، إلى نقطة اللاعودة ، حيث يكون اﻹنفجار هو الشرّ الذي لا بد منه ، لخلق واقع جديد ذي ظروف جديدة . إنّ رياح الحرية التي هبّت على العالم العربي ، كنتيجة متوقعة لثورة اﻹتصالات و العولمة ، كان يجب أن يقابلها شكل من التفهم و التفاعل من قبل السلطات الحاكمة ، يتمظهر بالمبادرة إلى زيادة هامش الحرية ، و إفساح المجال لمزيد من المشاركة السياسية و اﻹقتصادية ، بغية تأمين حقوق المواطن و إزالة هواجسه .
على أن تعاطي السلطة جاء معاكساً تماماً ، إعتمد مزيداً من القمع و مصادرة الحريات ، و ذلك ﻷنّ الذهنية القروسطوية التي استحكمت عقول الحكام في العالم العربي ، ما كان لها أن تعي التغيرات المتسارعة التي شهدها العالم في النصف الثاني من القرن الماضي . و عندما تظهر السلطة أسوأ ما عندها ، فإنّ الشعوب ستظهر أسوأ ما عندها أيضاً، انطلاقاً من القاعدة المنطقية التي تقول أنّ ردة الفعل دائماً ما تكون من جنس الفعل ، و لهذا شهدت ثورات الربيع العربي أعمال عنف مستمرة ، ما زالت تتوالى ، حتى كتابة هذه السطور .
و كان من الطبيعي أيضاً أن تفتح هذه اﻷحداث المتأزمة ، الباب على مصراعيه أمام الكثير من المصطادين بالماء العكر ، الذين لطالما تحينوا الفرص للإنقضاض على المنطقة العربية بهدف تقسيم المقسم ، و تجزيء المجزأ . لقد دأب اﻹستعمار ، منذ أمد بعيد ، على اﻹستفادة من أوضاع عدم اﻹستقرار التي تعيشها المنطقة ، بهدف السيطرة على مقدراتها من جهة ، و تحويلها ، بالقوة ، إلى سوق لتصريف إنتاجه المتضخم من جهة أخرى .
و من سالف القول أنّ من يتحكم بالسوق اﻹقتصادية ، سيفرض لاحقاً أجندته السياسية ، و سيوظف كلّ ذلك خدمة لمصالحه و أهدافه . و ما كان لهذا اﻹستعمار أن يجد موطئ قدم يثبت فيها أقدامه لولا التشظي المنقطع النظير الذي تمرّ به المنطقة ، و لولا حالة اﻹنقسام الحاد و التشرذم المفرط اللذان يجوسان ديارها ، إن داخل البلد الواحد ، أو بين الدول ذاتها .
إنّ المسؤولية تقع ، أولاً و آخراً ، على السلطات الحاكمة في هذه الدول ، ﻷنهم ، في الحقيقة ، حفنة من الطغاة الذين يعتقدون أنّ مقدرات اﻷوطان ما هي إلا أملاك تخصهم وحدهم دون باقي المواطنين ، و هم يرون في المواطن عبداً مسخراً لخدمتهم و تحقيق مصالحهم . إنّ الطغيان أعمى ، و ﻷنه كذلك ، فإنه سيدوس كل حلم و أمل ، و هو أشبه بالوباء الذي سيصيب القريب قبل البعيد ، حيث يكون الجميع في دائرة الخطر .
إنّ هؤلاء الطغاة المتحكمين بالسلطة ، هم الجسر الذي يعتمده الغزاة في هجومهم على أوطاننا العربية ، و هم الثغرة التي يدخل من خلالها كل من يريد القضاء على أمتنا أو إستعبادها .
و من يريد صد الغزاة ، عليه أولاً القضاء على الطغاة و نهجهم ، و إلا فإنّه سيظل كمن يدور في حلقة مفرغة ، لا سبيل إلى الخروج منها ، مهما طال الزمن .
تتغير الظروف و تختلف اﻷماكن و تتبدل اﻷزمان ، لكن حكمة التاريخ ستظل تردد : أن الطغاة ، كانوا دائماً ، سبب الغزاة