عندما نشرَت «الجمهورية» التفاصيلَ الكاملة لمؤامرة سماحة - المملوك بالصوَر والاعترافات، بدا للوهلةِ الأولى أنّ المحاكمة في هذا الملف الخطير سلكَت طريقَها من دون عقبات.
فالمحاكمة الأوّلية كانت أمام الرأي العام اللبناني والعربي والدولي، وتفاصيلُ هذا الملف تلقّفَتها أكثَرُ من دولة كبرى أصدرَت عقوبات بحقّ علي المملوك، وغيرِه من المتورّطين، ولم يكن صدور الحكم الصوريّ أمس إلّا تحدّياً لكلّ معطيات التحقيق الموَثّق، بحيث بدا أنّ حكماً تخفيفياً جاهزاً كان معَدّاً للصدور بمجرّد بدءِ إجراءات تفريق المحاكمة، لتعَذّرِ إبلاغ المملوك.كانت سيناريوهات محاكمة سماحة تتأرجَح بين احتمالات عدّة، منها احتمال الإدانة بجناية الإرهاب ومحاولة الاغتيال والتفجير، ومنها احتمال استنفاد الفترة الزمنية الأطول لإصدار الحكم في انتظار جَلاء الوضع في سوريا، لكنّ كلّ هذه الاحتمالات سقطت مع صدور قرار المحكمة العسكرية الذي برَّأ سماحة عمَلياً من اعترافاته بالصوت والصورة، مرفقةً بالعبوات الناسفة، والأموال اللازمة لتنفيذ هذه العملية.
لم يكن هذا الحكم في نظر جهات قضائية وقانونية إلّا فضيحة الفضائح، إذ لم يسبق أن تعاملَ القضاء مع ملف كامل بالأدلّة والبراهين بحجم ملف سماحة، الذي اعترفَ أمام التحقيق بكلّ ما نُسِب إليه، والذي اعتذرَ من ضحاياه المفترَضين، حيث كان المخطّط يهدف لاغتيال شخصيات دينية وسياسية، بالعبوات الممغنَطة، والعبوات الكبيرة.
بالعودة إلى الوراء قليلاً، إلى يوم توقيف سماحة، يمكن القول إنّ ضغوطاً هائلة مورِسَت على القضاء لنقلِ سماحة من فرع المعلومات، الذي لم يستطِع، بالكاد، استكمال التحقيق. ووصَلت الضغوط إلى حدّ الطلب من القضاء منعَ فرع المعلومات من عرض الأدلّة الجرمية التي ضُبِطت بحوزته أمام وسائل الإعلام، وقد تدَخّلَ الوزير المعني يومَها لدى النائب العام التمييزي لتحقيق ذلك.
وبفعلِ هذا الضغط، لم يتمكّن التحقيق من الانتقال من ملف العبوات إلى ملفات أخرى متصلة بتحليل اتّصالات سماحة الماراتونية التي سَجّلها بنفسه، مع كلّ مَن تحادثَ معهم في لبنان وسوريا، ومنهم مسؤولون سوريّون كبار، ولهذا الملف تتمّات مهمّة، تكشف وتؤرّخ لمرحلةٍ كان لبنان فيها يتعرّض لمسلسل التفجيرات.
في التداعيات العملية لفضيحة الفضائح، أنّ وضعَ المحكمة العسكرية الحالي لن يكون مقبولاً، وسيتقدّم وزير العدل اللواء أشرف ريفي إلى مجلس الوزراء بمشروع قانون لتعديل اختصاصها، بحيث يقتصر على النظر في قضايا العسكريين، وهذه ستكون عنواناً لمرحلة جديدة، تشترك فيها كلّ القوى الحيّة المدنية وجمعيات حقوق الإنسان، في معارضةِ المحاكم الاستثنائية التي لم تعُد موجودةً كنموذج قضائي في كلّ الدوَل المتحضّرة، ويُنتظر أن يكون مشروع القانون قد أنجِز في وقت قريب.
في الانتظار، يبقى الحكم الصادر بحقّ سماحة مثالاً في الاستخفاف بالرأي العام، والاستخفاف بالأمن الوطني، واستباحة دماء الشهداء، على رأسهم الشهيد وسام الحسن الذي كان له الفضل مع اللواء ريفي في كشف مؤامرة سماحة - المملوك، وتعطيل نتائجها الكارثية، مع العِلم أنّ الحسَن دفع حياته ثمناً لشجاعته في حماية لبنان.
من أجل كلّ هذه الأسباب، لم ينتظر وزير العدل اللواء أشرف ريفي كثيراً ليعلنَ ما أعلنَه، ناعياً المحكمة العسكرية، فالسكوتُ عن هذا الحكم الفضيحة، هو مشاركة في المهزلة، وليس ريفي من الذين يقبَلون أن يُغتالَ وسام الحسن مرّتين.