لم يسمع العميل "الأغلى ثمناً" هيئة المحكمة تنطق بحكمها، ولم ينل ما كان يستحقه من عقاب لقاء ما قدمه من "خدمات" لـ"الموساد" الاسرائيلي من تسريب معلومات ووثائق وصولا الى الاشتراك في جرائم اغتيال مقاومين.
كانت المحكمة العسكريّة تنتظر أن يدخل علي رفيق ياغي إلى قاعتها لاستجوابه، في قضيّة تعامله مع العدوّ الإسرائيليّ، بعد عامين قضاهما في سجن روميه. نُوديَ عليه، ولكنّ القوى الأمنية المولجة إدخال الموقوفين إلى قوس المحكمة لم تجده، بل وجدته ذاكرة رئيس المحكمة العميد الركن الطيّار خليل ابراهيم، فأشار إلى أن المتّهم بالعمالة مات في السجن منذ مدّة قصيرة، مطالباً بمراسلة سجن روميه لإرسال محضر الوفاة الرسمي إلى المحكمة.
وتشير المعلومات إلى أنّ ياغي (64 عاماً) توفي في السجن مطلع العام الحالي، بعد معاناة مع الأمراض، وقد دفن في مسقط رأسه بعلبك من دون أن تفلح كتابات ابنه على «الفايسبوك» في الحشد لجنازة لم يشارك فيها سوى عدد قليل من أفراد عائلته التي كانت قد أعلنت سابقا قرار التبرؤ منه.
دفن عضو بلديّة بعلبك السابق والموظف السابق في وزارة الأشغال، ولكنّه لم يأخذ سرّه معه، فقاضي التحقيق العسكري استجوبه مرارا وقبله «حزب الله» وثمة محاضر تشي بكل ارتكاباته.
الرجل الذي لم تكن آثار الثراء ظاهرة عليه نهائيا، بل يعطي بتصرفاته ايحاءات معاكسة، أقرّ بالتعامل مع إسرائيل لأكثر من ربع قرن مقابل مبالغ ماليّة تقاضاها من مشغليه تفوق الـ600 ألف دولار، ليصبح بذلك "العميل الأغلى ثمناً" وربما "الأعتق".
تنقّل ياغي على مدى أكثر من 25 عاماً في مهام كثيرة بعد أن تمّ تجنيده من "الموساد" خلال عمله في "الصليب الأحمر". وكان كثير السفر (حوالي مرّة كلّ ستة أشهر) إلى بلدان أجنبية عدة، حيث كان يلتقى مشغليه في "الموساد" وأبرزهم ضابط برتبة لواء. كما دخل إلى فلسطين المحتلة أكثر من مرّة بجواز سفر مزوّر، ليحوز على رتبة مقدّم من قبل "الموساد"، مزوّداً إياهم بالكثير من المعلومات.
وبرغم المهمّات التي كلّف بها، إلا أنّ عارفيه يؤكدون أنّه لم تكن إشارات الذكاء بادية عليه، بل كان غير اجتماعي وكثير الشرود ويظهر بمظهر المسكين قليل الحيلة.
وقد تكون الأسباب كثيرة التي تجعل من المدعى عليه عميلاً مهماً، ومنها الدورات التدريبيّة التي أخضع لها، إذ تؤكّد مصادر قضائية أنّ ياغي كان مدرّباً على كيفيّة القيام بمسح جوي للصور (أي يمكنه تحديد المواقع بسهولة على الصور الطوبوغرافية) وعلى التواصل مع العدو بأحدث وسائل التواصل واستخدام الحبر السري وأجهزة الاتصال والراديو الالكتروني، حتى أنّه كان مزوّداً بـ"ساعةٍ خشبيّة" للتواصل مع مشغليه.
وكان العميل يرفض الخضوع إلى اختبارات الكذب الدورية، ما دفع بـ"الموساد" الإسرائيلي إلى الاستغناء عن خدماته بين العامين 2011 و2012، إلا أنّه أصرّ على استكمال عمله فسافر إلى بانكوك في العام 2012، ومن هناك جدّد اتصاله بالمخابرات الإسرائيليّة و"فاز" بثقتها مجددا وبمهام أمنية جديدة!
وظيفة ياغي في وزارة الأشغال ومسؤوليته عن "مشروع الليطاني"، ثمّ انتخابه لعضويّة بلديّة بعلبك وتكليفه بترؤس لجنة الأشغال فيها، سهّلا مهمته الأمنية. إذ إنّه كان قادراً على الوصول إلى الكثير من الوثائق والصور والخرائط والتفاصيل عن جغرافيّة البقاع وبنيته التحتيّة وشبكات الاتصال.
وما يزيد من أهميّته هو نجاحه بأن يكون قريبا من بيئة "حزب الله"، وعلى هذا الأساس تم اختياره لعضوية بلدية بعلبك، الأمر الذي سهل اختلاطه بكوادر حزبية وسياسية عدة، بالإضافة إلى كون عائلته موجودة في معظم أحزاب بعلبك (حزب الله وأمل والحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث والحزب التقدمي الاشتراكي).
ويعتقد أنّ ياغي كان "العميل الملك" بمشاركته في إنشاء "بنك أهداف البقاع"، خصوصا في بعلبك ابان عدوان تموّز 2006، حين استهدفت طائرات العدوّ مراكز قياديّة ومستودعات أسلحة وذخائر لـ"حزب الله" خصوصاً في محيط منزله، علما أنه كان قد بدأ رحلة عمالته بمراقبة سير تحرّكات الأمين العام السابق لـ"حزب الله" الشهيد السيد عباس الموسوي الذي كان يسكن بالقرب من منزله في بعلبك. بعد أيّام قليلة يصل المحضر الرسمي للوفاة إلى المحكمة العسكرية، فتسقط تلقائيا الاتهامات الموجّهة إلى علي ياغي!