للتاريخ سنن و حتميات ثابتة ، لا يحيد عنها ، ولا يستطيع أحد تغييرها أو الوقوف بوجهها . إنها مسلمات أساسية ، يسخرها التاريخ و يوظفها ، بغية تسجيل ما حدث ، و ما سيحدث .
و ليس الهدف من التاريخ ، تسجيل الحدث فقط ، بل و أخذ العبر بالدرجة اﻷولى ، و لكن مفتاح ذلك كله هو العقل . فعقلنة التاريخ ، و أخذ اﻷحداث بسياقها ، و رؤيتها بعين العقل ، هي الشروط التي علينا اعتبارها نقطة ارتكاز أساسية ، لﻹنطلاق في رحاب الزمن الماضي . إن القراءة العلمية لﻷحداث السابقة ، تجعلنا نحكم عليها حكما" مجردا" ، موضوعيا" ، و تزودنا بنتائج علمية و عملية ، نحن أحوج ما نكون إليها ، خاصة في حياتنا الراهنة .
أما قراءة التاريخ بعين واحدة ، و من منطلق عقائدي ، فستؤدي إلى إصدار أحكام خاطئة ، متحيزة ، تعيد بعث الخطايا ، و تلقينا في دوامة العصبية و التخلف . فالتاريخ يتحفنا دائما" ، بعبر متواصلة ، مستمرة ، و يجعلنا ، في حال استفدنا منها ، نختصر الكثير من المخاضات التي تسبب المزيد من اﻵلام ، ﻷن تركم المعرفة يزيد من تراكم الوعي ، و تراكم الوعي يكسبنا خبرات لم نختبرها ، و تجارب لم نجربها ، و يوفر علينا مصائب ، نحن بغنى" عنها . و إذا كانت نفس المقدمات سينتج عنها ، بالضرورة ، نفس النتائج ، فلماذا لا نقيس الشاهد على الغائب ، فنستدرك بذلك كثيرا" من السلبيات الآتية .
لقد أدركت الدول الغربية ، مبكرا" ، هذه البديهيات ، فعملت على اﻹستفادة منها ، مختصرة بذلك ، الكثير من اﻷزمات . لقد أيقنت السلطات في هذه الدول ، مثلا" ، أن الوقوف في وجه إرادة الشعوب ، سيجر عليها كوارث و ويلات عديدة ، فآثرت التكيف و التجاوب ، وعيا" منها ، أن ذلك أحد شروط اﻹستمرار و التطور . إن اعتماد سياسة ( أفضل الممكن ) ، لدى هذه السلطات ، يدل على وعي متقدم و ذكاء ، كما يدل على النظرة الواقعية التي طبعت جوهر سياساتها العامة . أما في الدول العربية ، فالمراوحة ، إن لم نقل النكوص ، هي مآل جميع اﻷوضاع ، و ذلك ﻷن الطبقات الحاكمة في هذه الدول ، لم تزل تكابر و تعاند على الطريقة الدونكيشوتية ، متناسية أن معاندة الواقع لن تنتج إلا الخيبة و الخسران . لقد كان على هذه الدول أن تتعظ من سنن اﻷولين ، و أن تعي أن ذهنية التحجر و التصلب لم تعد تجدي نفعا" ، و كان عليها ، قبل كل شيئ ، أن تبادر إلى تصحيح ما يجب تصحيحه ، خشية الوقوع في المحظور . إن تمادي هذه اﻷنظمة ، في عملية الهروب إلى اﻷمام ، ستنتج مخاضا" عسيرا" قد يستمر عشرات السنين . و إذا نظرنا إلى آليات انتقال السلطة في الوطن العربي ، منذ نشوئه ، سنجد أنها كانت دائما" ، و ما تزال ، تقوم على الثورة و العنف ، و في ذلك دليل واضح على مدى انتشار حالة اللاوعي التي يعيشها هذا الوطن ، من شرقه إلى غربه ، و من شماله إلى جنوبه .
و هنا ، فإن ما يسمى ( الربيع العربي ) ، هو في المحصلة ، ردة فعل طبيعية ، كان لا بد أن تحصل عاجلا" أم آجلا" . و من يعيد قراءة أخبار الماضين ، قراءة متوازنة ، يوقن أن اعتماد سياسة القمع تجاه المواطن ، و صم اﻵذان عن مطالبه المحقة ، سيدفعان به إلى القيام بثورات ، لا تبقي و لا تذر . أمام هذه الحقيقة ، لا بد من توجيه نداء عاجل إلى السلطات الحاكمة في البلدان التي لم تصلها رياح الربيع العربي بعد ، ندعوها فيه إلى وعي هذه الحتميات التاريخية ، و المبادرة إلى اﻹصلاح و التغيير ، قبل فوات اﻷوان .
و أخيرا" ، نحن نعتقد و نؤكد ، أن الربيع العربي ، رغم استلابه هنا ، و انحرافه عن مساره هناك ، فإنه سيبقى محطة مضيئة ، في تاريخنا العربي المظلم .