عاما بعد عام، يتحول عيد العمال في العالم العربي إلى مناسبة باهتة تفقد رونقها وقيمتها النضالية وتختفي مضامين الصراع التي قامت عليها، وترمى طي النسيان التضحيات الكبرى بالعرق والدم التي دفعها عمال العالم قبل أن يحصلوا على جائزة الترضية تلك في شيكاغو في الولايات المتحدة الأميركية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
وليس مبالغة القول إن الأول من أيار صار مناسبة عائلية تشبه عيد الأم في آذار أو عيد الأب في حزيران أو عيد الشجرة، وتختزل فيه الطقوس إلى حدها الأدنى، إلى يوم عطلة غير ملزمة إلا لطلاب المدارس والجامعات، واحتفالات تنظمها الحكومات وتلقى فيها الخطب الوزارية والرئاسية وتتلى فيها الوعود والبرامج الانتخابية.
بين احتفالات يحييها رؤساء ووزراء وأرباب عمل، ويكابد العمال فيها لأن المحتفلين يجعلونه عيدا للعمل لا للعمال (لبنان)، أو يجعلون الطبقة العاملة جمهورا يصفق لدوام الاستبداد، وأخرى تنظمها أحزاب صادرت العمال ونقاباتهم وانتزعت تمثيلهم السياسي ونطقت باسمهم، لكنها كانت تحسب العيد يوما للنضال ومناسبة لتأكيد الحقوق، مستقوية بقوة الجبار السوفياتي وقنابله النووية وصواريخه العابرة للقارات ونفوذه المترامي على أربع أرجاء الكرة الأرضية.
مع أن المنشأ أميركي والرعاية أممية، كانت للعيد نكهاته المحلية، إذ تتباهى النقابات باستقلالية مزعومة كما في لبنان أو تونس، أو تتجاهل وقوعها ضحية التدجين في ظل أنظمة الحزب الواحد أو الجمهوريات الوراثية أو الانقلابات العسكرية ، كما في مصر وسوريا والعراق والجزائر وسواها، أما سائر بلدان العالم العربي فقد كان فيها العيد مجرد فكرة أو ضربا من التخيل أو حلما بعيد المنال. حين انهارت الرافعة الأممية، صار العيد بلا سند عالمي، وتفككت الأحزاب اليسارية وضاعت بوصلتها السوفياتية الصينية، لكنها ظلت على موقفها من عدو معقد التركيب يتمثل ب "الاستعمار والصهيونية والامبريالية ورأس المال المتوحش"
محنة الطبقة العاملة هي الأخرى معقدة التركيب، فهي مبتلية بوهم اعتناق الماركسية، مع أنها لم تستخدم من هذا الفكر إلا مفهوم الصراع الطبقي، وسلاحها الضغط بالاضراب لحرمان رب العمل من بعض أرباحه، ولهذا الصراع في نظرها وجهة واحدة تتمثل بالمواجهة مع رأس المال وأصحابه بصرف النظر عن مستوى تطور علاقات الانتاج وتطور القوى المنتجة.
وهي مبتلية بتعصب شوفيني لانتماء لا يمكن أن يتشكل إلا مقترنا بالوعي. فالعمال لا يشكلون طبقة إلا إذا كانوا على وعي بموقعهم الطبقي، وفي غياب هذا الوعي يكتفون من التضامن بالتعصب الذي يسهل توظيفه في صالح الحزب كما في صالح الطائفة أو الزعيم ، حتى لو كان ذلك على حساب المصالح الحقيقية الطبقية للعمال، ما يفسر أن وقود الحروب الأهلية هم "البروليتاريا الرثة"، بحسب القاموس الماركسي، أي فقراء الطبقة العاملة الذين يختارون، في الأوقات الحرجة، الالتحاق بالطوائف والمذاهب، أو يجدون الأمان في حضن القبيلة أو العشيرة، خشية هبوب رياح قد تطيح بالتوازنات والتحالفات والمساعدات وكل أشكال الرشاوى النضالية المادية أو المعنوية.
الابتلاء الأكبر الذي يصيب العمال يتمثل بالأحزاب، وبالأخص تلك التي تزعم تمثيلهم تمثيلاً حصرياً فتصادر دورهم النضالي وتلغي استقلاليتهم ، و تقيم التحالفات باسمهم وترسم، بالنيابة عنهم، خطوط التماس السياسي والإيديولوجي مع الخصوم، وتحدد استراتيجيات المعارك وتكتيكاتها، انطلاقاً من التفسير الاقتصادي الأحادي الجانب للظاهرات والأحدات والتطورات. وليس ذلك إلا صورة من صور الاستبداد التي ابتكرتها أحزاب سمت نفسها أحزاب الطبقة العاملة.
إذا كانت ثورات الربيع العربي قد انفجرت في وجه الاستبداد السياسي والديني، فالطبقة العاملة تحتاج، كالأوطان والشعوب، إلى ربيع يزيح عن كاهلها كابوس نقابيين لا يمثلونها، وكابوس استبداد حكومي يضيق عليها، و حزبي يصادرها ويلغي دورها ، لتتحرر من تسلط السياسي على النقابي، وتستعيد حقها في تقرير شؤونها وفي اختيار قياداتها، على أن يكون في طليعة برامجها النضال لا من أجل زيادة أجورها ومداخيلها فحسب، بل، قبل ذلك، من أجل زيادة نسبة النمو وزيادة الدخل الوطني.