ربما كانت كلمة (( التطرف )) من أكثر الألفاظ إلحاحاً على ألسن الكتبة والإعلاميين والساسة في هذا الوقت، ولعل الأحداث الأخيرة وتداعياتها دفعتها دفعاً إلى مقدمة المصطلحات الدارجة التي تعبر عن بعض مكنونات النفس وتغني عن تطويل وسرد عريض، وهي كلمة مولدة غير أصيلة، ويفترض أنها تعني عند من يطلقها وقوف الإنسان في طرف بعيد عن مركز الوسط . ومتاهة المصطلحات سبب وطيد للتباعد في المواقف، وتحول الحوار إلى نوع من الصراخ في قوم لا يسمعون، إذ إن التطرف هو محاولة للتعريف بحسب الموقع الذي يشغله المرء.
فأنت إذا افترضت نفسك تعبيراً عن الوسط، الذي هو رمز الاعتدال والتوازن والفضيلة ، وهو مقام يتفق الجميع على نشدانه وتطلبه، فالفضيلة وسط بين رذيلتين: كما كان يقول أرسطو، وقرر هذا علماء الإسلام كالغزالي وابن القيم وغيرهم، وهو أحد معاني الأمة الوسط في القرآن الكريم كما قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً). إذا افترضت نفسك ممثلاً لهذه القيمة الراقية " الوسطية " فأنت تحدد مواقع الآخرين تبعاً لذلك، فهذا يمين، وهذا يسار، وذاك يمين اليمين، وذاك يسار اليسار، وهذا متطرف، وهذا غير متطرف. ولنا أن نعتبر هذا امتداداً للمبالغة في رؤية الذات وتقدير قيمتها واعتبارها ميزاناً للحكم والتقدير، وربما محاولة لرسم منهج تفكير الآخرين دون ترك الخيار لهم .
إن من الأشخاص من يوجد في نسيج تكوينهم العقلي والنفسي مبدأ التوازن والاعتدال، وهذه قيمة شريفة، ونعمة غالية، ولقد كان العلماء يجعلون الفضيلة العليا هي فضيلة العدالة التي تتمثل في التوافق والانسجام بين قوى النفس عن طريق العقل، فلا تبغي إحداها على الأخرى، فيكون ثمت توازن بين قانون العقل وحركة النفس .
وبإزاء هؤلاء جبل آخرون على نوع من الحدة المتمثلة في تفوق صفة من صفات النفس على غيرها، كصفة الغضب، أو صفة الشهوة، ويفتقد التوازن داخل نظام العقل وحركة النفس، فأحياناً يكون العقل ذا سلطة مستبدة على النفس، وأحياناً العكس، وفقدان التوازن هنا مؤهل لصنع أنظمة غير وسطة في مناهج التفكير والتربية، بل والعلم والمعرفة .
وهذا التكوين الفطري ذو علاقة وطيدة بنوع الاختيار العلمي والعملي الذي ينحو إليه المرء في غالب الأحيان ، ما لم يقاومه ما هو أبلغ تأثيراً ، وأعظم وقعاً . ونتيجة لهذا فإنك تجد اختيارات الإنسان وآراءه ، وأنماط سلوكه وحياته متجانسة ؛ لأنها تخرج من مشكاة واحدة . ولحسن الحظ فإن غالب الناس هم في دائرة الوسط والعدل من حيث نظام التعامل الحياتي في أصل تكوينهم ، ودائرة الوسط ليست صيغة واحدة ، لكنها إطار عام يحتوي طبقات عريضة من الناس .ويبقى أن هذه الوسطية الفطرية التي يتحلى بها أكثر الناس ليست سوى مؤهل بقبول الحق والتأثر به والتسليم له ، فهي نوع استعداد لا يفيد ما لم تنطبع عليه آثار الهداية الربانية .
والتطرف في الإطار الإسلامي هو تعبير عن فهم منحرف، أو تطبيق منحرف للتعليمات الشرعية ، وإن كان قد يتكئ على حجج شرعية واهية، أو بتعبير آخر( حيلة شرعية)، أو ينطلق من غيرة دينية، كما في أول وأقسى نموذج في التاريخ الإسلامي، وهو نموذج الخوارج.
إن التطرف الذي هو ( تجاوز عدل الشرائع السماوية والفطر الآدمية ) هو أزمة بحق، وتاريخ الحضارات كلها يكشف عن نماذج كثيرة لهذا التطرف، وتعد رسالة الإسلام الأنموذج الأول والأمثل لمعالجة هذا الانحراف، لكن مع هذا كله فلسنا هنا بصدد أن نعيش ردود أفعال ونتبادل مع الغرب والعالم الأوصاف، إن هذه معركة ربما تكون غير ملحة، وقد لا تصنع شيئاً لصالحنا، لكن المهم أن ندرك أهمية بناء الوعي في أفراد الأمة؛ لنعرف مواقع التطرف الخارجة عن الإطار الإسلامي، وقد تكون بعض الأطراف مستهلكاً لشيء من هذا، لكن لابد أن ندرك أن الأزمة ليست في التطرف يوم يكون حالة تعرض لدى بعض الفئات، لكن يصبح الأمن العالمي مهدداً حقيقةً حينما يكون التطرف قانوناً له شرعيته كما ترسم ذلك دوائر سياسية ومؤسسات متنفذة في الأوساط الغربية قد يتجاوز تأثيرها إلى دوائر شتى، ولعل الأنموذج اليهودي هو المرشح عالمياً لهذا لو أعطيت الشعوب حرية الموقف والتعبير.
بقلم الشيخ عباس أمين حرب العاملي