اليمن نموذج فاقع عن صراع المحاور، لأنه إذا كان من المفهوم أن يتأثر لبنان بالقضية الفلسطينية والأزمة السورية لاعتبارات جغرافية بالدرجة الأولى، فإنه من غير المفهوم أن يتأثر بالأزمة اليمنية سوى من باب ارتباطه العضوي بالمحاور الإقليمية وتأثّره بصراعاتها وتجاذباتها ونتائجها.
آخر ما كان يمكن أن يتصوّره اللبنانيون يوماً هو الانقسام حول اليمن، أو أن تتحوّل الأزمة اليمنية إلى أزمة لبنانية، ما يجعل أفضل توصيف للواقع الحالي: هَزلت.ولكن أهم ما في الأزمة الأخيرة انها أكدت للمرة المليون أنّ فلسفة القضية اللبنانية قائمة على بند أساسي وجوهري هو التحييد فقط لا غير، حيث أنّ الالتزام فيه ينجِّح تجربة العيش المشترك في لبنان، وعدم الالتزام يقوِّض هذه التجربة.
فلبنان العيش المشترك المسيحي-الإسلامي والإسلامي-الإسلامي غير قابل للحياة من دون تحييد، لأنّ فلسفة التحييد تعني الآتي:
أوّلاً، الرغبة الصادقة في العيش معاً والتي تتطلّب تخلّي كل المكونات عن مشاريعها وارتباطاتها الخارجية لمصلحة المساحة المشتركة المسمّاة لبنان.
ثانياً، إعطاء الأولوية لمشروع الدولة اللبنانية.
ثالثاً، إسقاط الرهانات على المحاور الخارجية، لأنّ ايّ رهان من هذا النوع يعبّر عن ثقافة استقوائية تنتظر اللحظة الخارجية المواتية لتنقضّ على الشركاء في الداخل.
رابعاً، إحترام كل مكوّن مذهبي وطائفي لشعور ومشاعر المكوّنات الأخرى بالابتعاد عن ايّ تضامن مع مصالح خارجية على حساب المصلحة الوطنية المشتركة والجامعة.
فمع الأزمة اليمنية يجب أن يكون الكيل قد طفح، لأنّ السجال السياسي تخطّى كل الضوابط والسقوف، وانتقل من السياسي إلى المذهبي في ظل دعوة مكشوفة لإسقاط السعودية، لأنه ماذا يعني اتهام المملكة بتصدير الإرهاب غير ذلك، والعودة إلى روايات تاريخية خلافية سنية-شيعية من خارج السياق ولا تهمّ أحداً والهدف منها فقط التوتير المذهبي وتوسيع الشرخ السني-الشيعي. وبالتالي، هذا الوضع المستجد سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى سقوط المناعة السياسية والانزلاق إلى الفوضى السياسية.
وإذا كان من الظلم مساواة «المستقبل» و«حزب الله» في المسؤولية، لأنّ الحزب هو الذي بادر ويبادر للهجوم على السعودية واضعاً «المستقبل» في موقع رد الفعل، ولأنه، أي الحزب، نصبَ نفسه مدافعاً عن كل مكوّنات محور المانعة، وناطقاً رسمياً باسم المشروع الإيراني في المنطقة.
ولكن على رغم ذلك، فإنّ خطورة المواجهة الحالية تكمن في دفعها البلد رويداً رويداً نحو اللاستقرار والفوضى، في ظل الحاجة إلى مبادرة سياسية تفرمل العجلة نحو الحرب الأهلية.
ودعوة السيّد نصرالله إلى تحييد لبنان على غرار تحييده في الأزمة السورية غير دقيقة، لأنّ دعوته إلى التقاتل في سوريا استجلبَت الإرهابيين إلى لبنان، ومواجهته اليوم مع السعودية هي أوّل مواجهة مكشوفة شيعية-سنية من نوعها، حيث أنّ الرياض تمثّل اليوم وجدان السنّة، ومحاولة تحييد مصر وباكستان لا ينفع، والدعوات للتمسّك بالحوار هي لفظية، لأنّ الوقائع على الأرض تخالفها، وبالتالي ستسقط في أوّل مناسبة أو حدث أو تطور.
ولمَن يسأل كيف بدأت الحرب في العام ١٩٧٥؟ ما عليه سوى مراقبة كيفية تفكك شبكات الأمان واتساع رقعة الحقد والكراهية وتحوّل البيئة اللبنانية إلى بيئة جاهزة ومستعدة لمغامرة جديدة تعيد تدمير البلد وترسم مناطق النفوذ بأكياس الرمل والدشم.
يخطئ السيّد نصرالله إذا اعتقد أنّ بإمكانه تحييد لبنان في ظل الحملة الشعواء التي يخوضها ضد السعودية، كما يخطئ في توريطه الشيعة في حرب لن يخرجوا منها سالمين، فالأمور ستخرج عن السيطرة إذا حافظ على هذه الوتيرة الهجومية.
وفي هذا السياق أصبح المطلوب اليوم تحرّكاً مسيحياً سريعاً لتجنيب لبنان حرباً جديدة، خصوصاً أن المسيحيين، وعلى رغم انقسامهم، هم نسبياً على الحياد في هذه المواجهة، وقدرتهم على القيام بمبادرة مَردّها إلى الآتي:
أ - العلاقات المسيحية-المسيحية تمرّ في مرحلة من التهدئة والوئام والحوار، وهي من المرّات النادرة التي تشهد فيها الساحة المسيحية هذا التفهّم والتفاهم.
ب - لا يوجد أيّ طرف مسيحي يشجّع على الحرب، بل الحرص على الاستقرار هو أحد العناوين المشتركة بين المكوّنات المسيحية، لأنهم يدركون سلفاً انّ أيّ حرب جديدة يدفع المسيحيون ثمنها مزيداً من الهجرة والإحباط والخسائر الاقتصادية والسياسية...
ج - الحوار القوّاتي-العوني الذي نجح في تهدئة النفوس بعد حروب عسكرية وسياسية ضروس، والذي ما زال متواصلاً، باستطاعته أن يشكّل المنطلق لمبادرة مسيحية تترجم بلقاء سريع بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع يتمّ خلاله وضع خطة لتحرّك نحو لقاء موسّع برعاية بكركي يجمع أيضاً الكتائب والمردة والأحرار والشخصيات المستقلة من أجل توجيه نداء إلى المسلمين اللبنانيين لوَقف السجال السياسي المذهبي وتحييد لبنان عن الأزمة اليمنية، واستطراداً أزمات المحاور.
فالأولوية اليوم هي لمَنع الحرب في لبنان. ووحدة الصف المسيحية، من أجل إطلاق صرخة كفى وطنية بمعزل عن الاصطفافات السياسية، كفيلة بفَرملة الاندفاعة نحو الحرب. فالمبادرة المسيحية مطلوبة أكثر من أي وقت مضى، ومن دونها قد لا يكون ممكناً تجنيب لبنان الكأس المرة، وفي حال عدم التجاوب مع هذه المبادرة، يجب أن يُصار إلى تطويرها بالاتجاه العملي.
وقد تشكّل هذه المبادرة، في حال إتمامها، منطلقاً لعمل مسيحي مشترك يعبّد الطريق للاتفاق على استحقاقات دستورية ويعيد الوزن إلى الدور المسيحي الكفيل وحده مَنع انفجار لبنان بنيران الفتنة المذهبية.