ثلاثة عقود ونصف لم تكن كافية لنقل إيران من منطق الثورة إلى منطق الدولة. فمنذ إنتصار الثورة الإسلامية في إيران بزعامة الإمام الخميني وايران الدولة تحاول أن تعقلن إيران الثورة وتضعها أمام الحقائق وتصالحها مع منطق الإدارة والمؤسسة وتجعلها أكثر انفتاحا على العالم الخارجي ومع الجيران ومع المجتمع الدولي بكافة مؤسساته وتؤسس لعلاقات متوازنة مع دول العالم. لكن الثورة ترفض الانسجام مع الدولة والاستقرار فيها وهي ثورة في بلد تختزن أراضيه ثروة من أكبر الثروات وشعبه ورث حضارة من أعظم الحضارات ويتباهى بها.
وهي ثورة شيعية تستمد عناصر قوتها من عاشوراء الحسين في كربلاء العراق وثورة دينية لا تعترف بالقوانين الدولية ولا تلتزم بالحدود والحواجز وتعتبرها عراقيل وعوائق تحول دون التسلل إلى أراضي الآخرين في محاولات لتغيير أنظمتها لأنها تعتبر التغيير جزء من مشروعها الثوري بل تعتبره واجب من واجباتها وطبيعتها التغييرية. فإلى جانب مؤسسات الدولة هناك مؤسسات الثورة التي توازنها وحتى تتجاوزها في القوة وصناعة القرار.
فالجيش الإيراني يوازيه حرس الثورة الإسلامية. ورئيس الجمهورية يوازيه القائد الأعلى للثورة الإسلامية. وكذلك في الاستراتيجيات فقد تتبنى الدولة استراتيجية معينة على الصعيد الداخلي والخارجي فيما تتبنى الثورة استراتيجية مغايرة تماما. ففي عهدي الرئيسين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي تبنت الدولة استراتيجية التنمية في سياساتها الخارجية والأمن القومي التي تقوم على توظيف علاقاتها الإقليمية والدولية لتحقيق هدف التنمية في الداخل فيما تبنت الثورة استراتيجية مغايرة تماما تقوم على حفظ النظام والتوسع خارجيا.
فالدستور الإيراني يمنح المؤسسات الثورية ومؤسسة الولي الفقيه الذي يشغل منصب القائد الأعلى للثورة حق النقض ضد مؤسسات الدولة لأن مشروعية الدولة مكتسبة من هذين البعدين. الأمر الذي يجعل من منصب رئاسة الجمهورية فقط رئيسا للحكومة وليس مسؤولا عن تطبيق الدستور.
فدور الرئيس يقتصر على تصريف أعمال الحكومة فحسب. وفيما العالم اليوم يطالب إيران بالتقيد بما يجب أن تلتزم به أي دولة طبيعية وتحترم الحدود الدولية للآخرين وعدم التدخل في شؤونهم. فإن طهران تقرأ في كتاب الثورة وحده ويعمل المرشد الأعلى ورجالات الدين وجنرالات الحرس الثورى على تصدير الثورة إلى الخارج من خلال النفخ في جمر الحروب الأهلية في الدول المحيطة والتهديد بتمزيق الخرائط وزعزعة الاستقرار في المنطقه.
لقد نجحت إيران في توظيف مجموعة من الأحداث لمصلحتها. فبعد الهجوم على مركزي التجارة في نيويورك في أيلول 2001 استفادت إيران من الانطباع الذي ساد بأن الإرهاب يخرج من البيئة السنية وليس من البيئة الشيعية. وكذلك استفادت من سقوط نظام صدام حسين الذي كانت تعتبره السد الذي يمنع النفوذ الإيراني من التدفق في المنطقه العربية وأفادت مما أصاب سوريا بعد غياب حافظ الأسد ومما أصاب لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري.
إلا ان إيران ارتكبت الخطأ الكبير حين اعتبرت ان باستطاعتها إدخال اليمن في منطقة نفوذها من دون أن تراعي حساسية موقعه وأن بإمكانها أن تحقق في اليمن ما عجزت عن تحقيقه في البحرين مما يضعف من الاهمية الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية وتطويقها. واخطأت إيران حين اعتقدت بان السعودية لا تستطيع الذهاب في الرد إلى حد إتخاذ قرار في الحرب لمنع عملية التطويق.
فالسعودية لا تستطيع التعايش إلى جانب نظام يمني معادي لها.
لا شك أن الإصرار على المغامرات سيدخل إيران في حروب استنزاف على أكثر من ساحة.
والمخرج الوحيد لها ان تتراجع عن مغامراتها في اليمن وتتصرف كدولة لا كثورة وعندها سيسلم لها الآخرون بدور مهم يتناسب مع قوتها وحجمها ويستند على قاعدة الاحترام المتبادل.