استثمر «حزب الله» كثيراً في صناعة صورة «ذهنية» عن أمينه العام السيد حسن نصرالله، في صلبها مجموعة من «القِيَم»: قيمة «الصدق»، إذا قال فعل (الوعد الصادق). وليست مصادفة أن تتكرّر هذه القيمة كثيراً على لسان السيّد.. «نحن لا نكذب». لا بل أكثر من ذلك. فقد أصبحت «وعود نصرالله صادقة». يكفي أن يَعِدَ السيّد جمهوره بـ»النصر دائماً»، حتى يطمئن بال هذا الجمهور فينام على حرير.. فـ»السيّد لا يكذب». القيمة الثانية هي القوة في «تماسك المنطق» (consistency)، وطبعاً قيمة «الفضيلة» (virtue) أو «الحق» (العداء لإسرائيل وأميركا).
طوال عقود، استثمر حزب الله «قيم» نصرالله ليتمدّد عربياً وإسلامياً. خاض السيّد، بكلماته وعباراته، حروباً نفسية كبيرة، وبلغ تفاعل الجماهير المؤيدة والمعارضة حداً صارت معه تعابير وجهه ونبرة صوته وحركة اصبعه وجسده محل تحليل عميق.
تمتّع نصرالله بكاريزما أثّرت في الكثيرين على مستوى العالم. فالكثير من خطاباته لا تُنسى، وبخاصة تلك التي هندسها بدقة في زمن مقاومة إسرائيل.
في 14 تموز 2006، أي بعد يوم على انطلاق العدوان الإسرائيلي، أطلّ نصرالله ليخاطب العالم: «في عرض البحر، قبالة شواطئ بيروت، البارجة الحربية الإسرائيلية التي اعتدت على بنيتنا التحتية، انظروا اليها تحترق، وستغرق ومعها عشرات الجنود الصهاينة». يومها أذهل نصرالله العالم، ورُفعت صوره في الأردن وفي جامعة الأزهر في مصر وعلى مساحة الوطن العربي.. «التكفيري»!
الأستاذة الجامعية في علم النفس الاجتماعي منى فياض، تعتبر، في إطار تشريحها للمراحل التي مرّت بها صورة نصرالله، أن «أمين عام حزب الله، حظي، عقب تحرير الجنوب اللبناني، بلقب سيّد المقاومة، لأنه ساهم في تحرير الجنوب من أكثر الجيوش عدوانية وقوة، حيث قدّم انتصاراً نموذجياً للكثير من الشعوب العربية المتعطّشة للانتصارات على العدو الإسرائيلي».
لكن ما كسبه نصرالله في زمن مقاومة الاحتلال، ذهب أدراج الرياح في زمنٍ تحوّل فيه حزب الله من ضحية الى جلاد، ومن مقاوم الى محتل. وبدأت «القيم» التي جمعها نصرالله في شخصه وشخصيته، تتساقط الواحدة تلو الأخرى.
بدأت قيمة «الصدق» بالسقوط مع انطلاق أعمال «المحكمة الدولية». حوار دار داخل بيئة «حزب الله». جانب قد لا يكون صغيراً من جمهوره يعلّق موقفه من قتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري على اسم القاتل. إن كانت إسرائيل قتلت فالقاتل مجرم، وإن كان أسد صبرا ورفاقه الـ4 فالقتيل هو المجرم. آخرون لا يشغل الأمر تفكيرهم، لأنه ما من سؤال أخلاقي يشغلهم على وزن «يا للهول.. حزب الله يقتل»؟ حتى هذا السؤال لا يرادف في الوعي الجماهيري أن «حزب الله» مجرم. فـ»القتل» لا يرادف «الإجرام».
الحزب نفسه يسوّغ هذا اللاترادف في خطابه الضمني (الأسد يقتل لكنه نعمة من نعم الله). يحتاج الأمر الى استعادة المنطق الأرسطي لكشف التسويغ. في المقدمة الكبرى، يقول الحزب إن «من تمتد يده الى سلاحنا سننزع قلبه وعقله وروحه». المقدمة الصغرى أن القرار 1559 اعتداء على المقاومة. ثم تخرج ألسنة لتقول إنه من صنع الحريري. ماذا يستحق اذاً؟
المحكمة تشكّل مشكلة كبيرة لنصرالله. مشكلة قد تهدم بناءً استغرق 30 عاماً وأكثر. لا يستهان بالأثر غير المنظور للساعات الطوال من التهشيم القضائي، بالأدلة، لصدق «حزب الله». سيصبح مجرد تذكر الفيلم الطويل عن القرائن التي ساقها نصرالله لاتهام إسرائيل مجرّد مثار سخرية. مع كل إطلالة للمدعي العام، يتهشم شيء من نصرالله الذي «لا يكذب». تنكسر صورة وأسطورة. ينكسر تفاضل أخلاقي بنى عليه الحزب قيمته السياسية. «حزب الله» لا يعير المحكمة اهتماماً؟ هذه كذبة أخرى.
لكن لمنى فياض رأي آخر، إذ اعتبرت لـ»المستقبل»، أن «صورة نصرالله بدأت بالتخلخل، في أولى محطاتها، عندما أهدى نصرالله بندقية المقاومة الى رستم غزالي، صاحب التاريخ المعروف، ما فُسّر يومها، بأن نصرالله يستطيع أن يغطي أي سلوك، وأن يعطي شهادة حسن سلوك لأي كان. وذلك قبل «غزوة بيروت عام 2008، عندما شعر اللبنانيون بأن سلاح نصرالله، الذي حرّر الجنوب اللبناني وحظي بشرعية كل اللبنانيين، قد توجّه الى الداخل».
سوريا ضربت قيمة «المنطق». فالوقوف مع الظالم يقبله الجمهور في أجواء الحشد المذهبي (حماية المراقد/ لن تُسبى زينب مرتين)، لكنه يضرب في عمق اللاوعي قيمة أساسية من الشخصية، وبخاصة أن مقولة التشيّع قامت على المظلومية والحرمان. مع وقوفه الى جانب الظالم والمجرم بوجه المظلوم والمحروم، يخسر دعواه المؤسسة. ليس هذا كل شيء. مقولة «ما في شي بحمص» ضربت عمق «المنطق». فالشعوب العربية تابعت المجازر التي ارتكبها الأسد وحزب الله في حمص تحديداً، وحجم الدمار الذي لحق بالمدينة والريف. حتى قيل إن حمص لم تعد هي حمص.
أما اليمن، فقد قصم ظهر قيمة «التماسك في المنطق» (consistency)، لما حمله خطاب نصرالله من تضارب في «المنطق». يدافع عن أطفال اليمن ويبيح دماء أطفال سوريا. في اليمن مذبحة وفي سوريا مقاومة. السعودية تقتل الشعب اليمني «دفاعاً عن مصالح إسرائيل»، بينما الأسد يقتل شعبه في إطار مقاومة إسرائيل. السعودية تدعم الإرهابيين في قتالها «المقاومة الحوثية»، بينما الأسد يحارب «التكفيريين الصهاينة» في قتاله الشعب.
حديث نصرالله للتلفزيون السوري، أطلق العنان لسقوط قيمة «الحق» (العداء لأميركا وإسرائيل). يكفي أن يقول السيّد، الذي لطالما هدّد إسرائيل بالحروب المفتوحة وبآلاف الصواريخ، «إن حزب الله لا يمتلك القدرة حالياً على شن حرب ضدها أو تحرير فلسطين»، حتى تعرف طبيعة الصراع المقبل وعناوينه. في ليلة وضحاها، تحوّل «وعده الصادق» من «سحق إسرائيل» الى «سحق» السعودية والمعارضة السورية والعشائر العراقية وكل من يناهض إيران! تأجّل صراع حزب الله مع إسرائيل إن لم نقل إنه قد انتهى. هذا رهن بخواتيم المفاوضات بين «إيران الممانعة» و»الشيطان الأكبر». ولكن أياً تكن النتيجة، فنصرالله أثبت مراراً، أن لا قيمة لهذا «الحق»، وبأن طبيعة الصراعات وعناوينها آيلة للتبدّل تبعاً لما تقتضيه ضرورات مشروع «الولي الفقيه».
وفي هذا الإطار، تقول فياض إن «دخول حزب الله الى سوريا للمشاركة في قتل الشعب السوري الى جانب الأسد وإيران، ساهم بهزّ صورة نصرالله. لكن الأحداث اليمنية كان لها الوقع الأكبر في تغيير صورة نصرالله بالكامل عند الجماهير العربية، إذ عارض، بموقفه من عاصفة الحزم وبدعمه للحوثيين، مشاعر الجمهور العربي في كل البلدان، وقفز قفزة كبيرة باتجاه تبني العداء الإيراني، ليس للأنظمة فحسب بل للجمهور العربي أيضاً».
وأكدت فياض، أنه «من الصعب على نصرالله استرجاع صورته القديمة. فمراقبة آراء الناس ومتابعة مواقع التواصل الاجتماعي والشعارات العربية الجماهيرية المستجدة، تثبت أن قدسية سيّد المقاومة قد سقطت».
سقوط «اسطورة» نصرالله، المعطوف على سقوط «قيم» السيّد، ليس تفصيلاً. يقول أحد كبار واضعي الاستراتيجيات الإعلامية في المنطقة. إن «حزب الله يفضّل لو أنه خسر معارك ميدانية وحافظ على صورة نصرالله الكنز». تحوّل السيّد من مقاوم يحظى بشعبية جارفة الى محتل ينفّذ تعليمات «الولي الفقيه» على أشلاء العرب. هكذا ببساطة تنتهي الأساطير».
بقلم :علي رباح