دأبت السياسة العربية ، منذ ظهورها ، على استثمار الفكر و توظيفه ، خدمة لمصالحها من جهة ، و حفظا" لكيانها من جهة أخرى ، مما جعلها ، في أغلب اﻷحيان ، عصية على النقد ، أو محصنة منيعة كحد أدنى . و تسخير السياسة للفكر عملية قد تكون مقصودة ممنهجة في حالة ، و قد تكون غير واعية في حالات أخرى ، لكنها في كل الظروف عملية لا بد منها إذا ما أريد للسياسة أن تشرعن آلياتها و تحمي نفسها من اﻹنهيار السريع . و من البديهي أن يكون لكل حركة سياسية ، فكر سياسي تنطلق منه ، و تعتمده كرافعة ضرورية ، تسوق من خلالها طروحاتها و مشاريعها .
و لا مجال لنجاح أي حراك سياسي ، لا يأخذ في حساباته آلية استثمار أو تطوير الخلفية الثقافية التي تشكل إطارا" فكريا" لبنيته السياسية . و لما كانت السياسة السلطوية هي دائما" عملية نفعية ، لا يمارسها إلا الوصوليين الطامحين ، فإنها توجب عليهم ايجاد نظرية فكرية مستساغة ، يتقبلها الجمهور و يتفاعل معها ، ما يؤدي حتما" إلى تقبل تلك السياسة نفسها بحلوها و مرها .
و إذا كانت السياسة ، بوصفها حراك الكذبة و اﻹنتهازيين ، ملزمة بتوظيف الفكر و استثماره حماية لكيانها ، فأي مشروعية قد تبيح للفكر أن يتحول إلى آداة طيعة و منقادة بيد السياسة و أهلها ؟
و ما هي الظروف التي دفعت ( الفكر ) للخضوع و الركوع أمام ( السياسة ) . فالفكر بجوهره هو آلية ﻹنتاج المعرفة و وسيلته في ذلك هي البحث العلمي المحكوم بالعقل و المنطق ، أما غايته فهي الحقيقة و لا شيئ غيرها . فإذا كان هذا جوهر الفكر ، فأي مبررات و مسوغات تجيز له أن يصبح تابعا" للسياسة و خادما" لها ؟ هنا ، تتعدد اﻵراء و تتفاوت فمن قائل أن الفكر بتواطئه هذا ، يعبر عن حاجته المصيرية إلى السياسة ﻷنها مناط وجوده و سبب استمراره ، باعتبار أن السياسة هي رافعة الفكر و حاضنته و حصنه .
و من قائل أن الفكر لا ينبت و لا ينمو تحت وطئة الخوف و الترهيب ، و ﻷنه كذلك فهو مضطر إلى مماﻷة السياسة و مجاراتها ، خشية اﻹقصاء ثم اﻹلغاء . و ما يدعم هذا الرأي ، تلك التهم و المحاكمات التي وجهت إلى بعض المفكرين ، ما أجبرهم على التراجع عن آرائهم و التخلي عن قناعاتهم .
هذه اﻵراء و غيرها ، لا تقارب الواقع إلا بقدر ما تجافيه ، ﻷن الفكر ، أولا" ، هو الذي يرفع السياسة و يزيدها مقبولية عند الجمهور ، و ﻷنه ، ثانيا" ، و كما يؤكد التاريخ ، يستطيع التكيف تحت كل الظروف ، بل إن الترهيب قد يزيده قوة و مناعة في أغلب اﻷحيان . بين رأي و آخر تضيع الحقيقة أو تهمش و يخفت صوتها ، غير أن تحليلا" موضوعيا" متأنيا"للواقائع و السياقات ، سينتج بالتأكيد ، مقاربة تعكس الواقع كما هو .
و هذا الواقع يؤكد أن أزمة الفكر العربي هي أزمة ثقة بالذات قبل أن تكون أي شيئ آخر ، ﻷن هذا الفكر هو أقرب ما يكون إلى فكر طفولي ، لم يقارب حد النضوج ، و لم يستشعر حد المسؤولية ، و هو أقرب ما يكون أيضا" إلى الترف الفكري من أن يكون فكرا" منتجا" . لا يمتلك الفكر العربي منظومة فكرية متماسكة ، و نظرياته مجرد شذرات متناثرة هنا و هناك ، و هي دائما ما تكون نتيجة ردات الفعل ، و هذا اﻷمر إن دل على شيئ ، فإنما يدل على حالة انعدام الوزن و الشخصية التي يعيشها الفكر العربي بمجمله ، كما يدل على جهله بدوره المصيري في قيامة و تطور هذه اﻷمة . إن فكرا" هذه صفاته ، حري به أن يكون تبريريا"، أو توفيقيا" كحد أدنى .
و ليس أمام هذا الفكر ، كي يمارس دوره المنشود ، سوى تحسس المسؤوليات الملقاة على عاتقه ، و هذا لن يكون إلا بتفعيل آلية النقد الذاتي ، التي ستعيد تشكيل هذا الفكر على أسس علمية و عقلية متماسكة . بذلك فقط ، سيتجاوز الفكر العربي مرحلته الطفولية و ( الطفيلية ) ليبلغ مرحلة الشباب و النضوج ، فيصبح بذلك فكرا" منتجا" ، شأنه شأن كل فكر عاقل .