لا يمكن الزعم ان ايران باعت برنامجها النووي بثمن بخس. المبلغ المالي الذي ستتلقاه طهران، ويزيد عن 150 مليار دولار هي قيمة الودائع والممتلكات المجمدة في الغرب ( وفي اسرائيل ايضا حسبما كشفت صحيفة هآرتس أخيراً) يوازي عشرة اضعاف كلفة ذلك البرنامج الذي كان معروضاً للبيع منذ اكثر من عشر سنوات، وينتظر اللحظة المناسبة للتوصل الى صفقة مجزية.
البيع حصل بالفعل. لم يبق من ذلك البرنامج ومنشآته وأجهزته سوى القليل الذي يمكن ان يوجد في اي مركز ابحاث او مختبر جامعي. إرتقى البعد الاكاديمي على الافق المهني لعمليات التخصيب التي لم يعد مسموحا ان تتخطى ال3,8 بالمئة، وباتت ايران تعتمد على الغرب، وعلى روسيا طبعا، من اجل المضي قدما في مشاريعها النووية المتصلة بالطاقة او الطبابة. وهي ستظل في قفص الاتهام لنحو 25 سنة مقبلة، وستبقى عرضة لعمليات مداهمة ومراقبة أسوأ من تلك التي تعرض لها الاتحاد السوفياتي في اعوامه الاخيرة.
لكنها صفقة رابحة بكل المعايير، طلبتها ايران منذ العام 1992 والحت عليها منذ العام 2003 وتوقعتها في حزيران العام 2006 ، (قبل اسبوعين فقط من موعد الحرب الاسرائيلية على لبنان!).. الى ان وجدت ضالتها في رئيس اميركي مولعٍ بالحضارة والثقافة والعقيدة الايرانية، ومحاطٍ بثلة من الاصدقاء والخبراء ذوي الاصل الايراني، قرر ان يساعد طهران في التحرر من عبء القنبلة المحرمة بقوة "الفتوى"، حسب العبارة التي استخدمها حرفيا باراك اوباما في خطاب النصر من حديقة الزهور في البيت الابيض.
كان واثقاً من ان طهران لا تريد صنع القنبلة التي كان ولا يزال يمكنها شراؤها من الاسواق، لكنها اضطرت الى الاقتراب منها عندما صدها الرؤساء الاميركيون الواحد تلو الاخر ورفضوا سعيها الى الحصول على ودائعها وحقوقها المسلوبة، ووسموها بانها جزء من محور الشر والارهاب، مع علمهم المسبق انها وقفت بكل صدق وود الى جانبهم منذ هجمات 11 ايلول 2001 وهي لا تزال تقاتل معهم على جميع الجبهات المشتعلة مع الجهادية الاسلامية السنية بحماسة منقطعة النظير.
كان أوباما مدركاً ان طهران، ومنذ اللحظة الاولى، تريد ان تشتري بالبرنامج النووي كل ما يحتاجه النظام الايراني من نقود وعقود ونفوذ على امتداد العالم الاسلامي الذي أفرغه الارهاب من مرجعياته ومؤسساته ورموزه. ها هو يقدم لها الان الجزء الاول من حاجاتها، بناء على تفاهم محكم، مفاجأته الوحيدة هو انه يتم بين زعيمين يوشكان على الرحيل : أوباما الذي يدخل في سنة الوداع محروماً من الغالبية من الكونغرس، ومدعوماً بغالبية شعبية تنشد المصالحة مع الشعب الايراني ( لكنها لم تستطع ان تؤمن له الغلبة في برنامج الرعاية الصحية مثلا). وخامنئي الذي يدنو من موعد الرحيل، من دون ان يعرف اسم خليفته او دور حرسه او مستقبل ثورته، التي سجلت في الاونة الاخيرة ارقاما قياسية في عمليات التصدير الى الخارج، لم يحلم بها الاب المؤسس للجمهورية.
المغامرة كبيرة بالنسبة الى الرجلين: سار اوباما على هواه الايراني(الشيعي) المعروف، وقرر ان يفك عزلة ايران لكي تصبح شريكاً استراتيجياً معلناً في حربه على الارهاب، ونحى جانباً المخاوف العربية والتحفظات الاسرائيلية. قدم الى العالم بأسره صفقة تاريخية بالفعل، تشبه الصفقات التي عقدها أسلافه مع الزعماء السوفيات.. ومن جانبه اقدم خامنئي على خطوة مهمة على طريق توريث الحكم الى معسكر الاعتدال والانفتاح والاصلاح في داخل النظام الايراني، تستجيب للواقع الدولي الراهن، وتلبي حاجة الاجيال الجديدة من الايرانيين الى الاندماج في قيم الغرب ومطامحه.
يمكن ان يرحل الرجلان قبل ان يتم إبرام الاتفاق النهائي، لكن باب المصالحة التاريخية فُتح على مصراعيه، بعدما ظل موارباً منذ اليوم التالي لهجمات 11 ايلول 2001. لن تقفله القوات العربية التي تقاتل الان المشروع الايراني على الجبهات اليمنية او العراقية او السورية او حتى اللبنانية، ولن تقفله المناورات الاسرائيلية التي يمكن ضبطها بالقليل من المال والسلاح الاميركي..