يتنازع التيار الوطني الحر منطقان: يسعى الأول إلى تطبيق شعارات التيار بشأن الإصلاح والشفافية ورفض التمديد واحترام المواعيد الدستورية وتداول السلطة داخل البيت العوني، فيما يصرّ الثاني، بحكم عجزه عن السيطرة على «التمرد العوني» على الإقطاع العائلي والمالي، على تفريغ التيار من كل قيمه وناشطيه وجعله مجرد جثة سياسية طيّعة بين يديه. يقف الجنرال بين المنطقين متردداً: يلغي الانتخابات معلناً تأجيلها، أم ينصف من يشبهونه بعنادهم ويسعى للتوفيق بين المنطقين المتناقضين؟
عادة تناقش الهيئة التأسيسية في الحزب نظامه الداخلي، وتبقي اجتماعاتها مفتوحة ريثما تبلغ وزارة الداخلية والبلديات بنص النظام الداخلي النهائي. إلا أن قيادة التيار الوطني الحر آثرت، منذ سنوات، تجاهل الهيئة التأسيسية تماماً، فلم تدعها إلى اجتماع منذ عام 2008، واستعاضت عن تضييع الوقت في اجتماعات المؤسسين الصاخبة بأخرى هادئة تعقد في منزل الوزير جبران باسيل أو أحد مكاتبه، ليختار الضيوف بنفسه من دون أن يكون ملزماً بأعضاء الهيئة التأسيسية فقط، ومن دون أن تكون الاجتماعات رسمية بمعنى كتابة محضر وغيره.
وحين ينشغل الوزير، يكلف أحد مستشاريه بالحلول محله في «فلترة» الأفكار. هكذا توصّل المستشارون، بقيادة الوزير، إلى كتابة نظام داخلي وافقت عليه معظم أطراف العائلة العونية بعد تعديلات بسيطة وشكلية، لرغبتها في إقرار نظام داخلي أياً كان مضمونه، فيما أخذت الهيئة التأسيسية علماً به عبر وسائل الإعلام! ولم يرتفع صوت عونيّ جديّ واحد يعترض على صلاحيات الرئيس المطلقة وتكوين المكتب السياسي والمجلس الوطني والسلطات التنفيذية والرقابية. لا بل تعهد المعنيون بانطلاقة الحزب بألا يطمح أحد من خارج الدائرة الباسيلية إلى المواقع المركزية: فلتبقَ كلها تلك في قبضة الوزير باسيل والمستشارين. كل المطلوب انتخابات مناطقية تذكّر المحازبين المفترضين ببطاقاتهم الحزبية وتقيم الحزب من بين الأموات، بدل التمديد المتواصل منذ أكثر من عشر سنوات.
استبشر كثيرون خيراً مع تحديد موعد أوّلي للانتخابات، علماً بأن المنسق العام للتيار بيار رفول، المقرّب من باسيل، هو الآمر والناهي في المناطق منذ أكثر من عشر سنوات: لا يجرؤ نائب على دعوة منسق بلدة إلى فنجان قهوة من دون المرور به؛ طرد كثيرون أو أبعدوا لمعارضتهم له، فيما انكفأ كثيرون في منازلهم بعدما يئسوا من إمكان إقناع العماد ميشال عون بوجهة نظرهم المعارضة لوجهة نظر رفول. وعليه، كان يفترض بالانتخابات المناطقية أن تكون نزهة سهلة لرفول بعدما صال وجال في المناطق عشر سنوات بصلاحيات مطلقة.
هكذا شهد التيار، في الشهرين الماضيين، حركة مناطقية غير معهودة: اجتماعات حزبية، ناشطون يسألون المؤيدين المفترضين عن بطاقاتهم، دورات خاصة بتثقيف المنسّقين بكيفية ممارستهم لمهماتهم، وبحث مميز عن المرشحين الأقدر على كسب ثقة العونيين واحترام أهالي القرى التي يترشحون فيها. بدا، للوهلة الأولى، أن قيادة التيار ستلحق بالطاشناق في تجاوز عقدة غالبية الأحزاب اللبنانية من الانتخابات الحزبية. وحتى حين كثّف «المستشارون» تسريباتهم في شأن خشيتهم على التيار من «الانقسامات التي تسبّبها الانتخابات»! وعدم تدخل باسيل بها لعدم رغبته في المشاركة في هذه «الجريمة»، بقي منسوب التفاؤل مرتفعاً. فلا يمكن التيار، الذي يتمثل بأحزاب الدول المتقدمة في تنظيم «التومبولا» في احتفالاته، أن يأخذ هذه ويترك تلك. ولا يمكن الجنرال الذي لم يشعر بالخطر على التيار من كل ما فعله بعض أعضاء تكتل التغيير والإصلاح الحاليين والسابقين بزملائهم النواب سيمون أبي رميا وزياد أسود وإبراهيم كنعان، أن يخشى من حساسية ظرفية بين مرشحين إلى موقع المنسق في إحدى البلدات، إضافة إلى اقتصار الانتخابات، في مرحلتها الأولى، على منسّقي القرى والأقضية، الأمر الذي يؤكد عدم وجود أيّ مشاكل متوقعة على المستوى المركزي، فضلاً عن أن حماسة ناشِطَين للفوز بمنسقية التيار في أحد الأقضية، تبقى أفضل بكثير من ملازمة الناشطين منزليهما دون مبالاة بالتيار كما يحصل منذ عدة سنوات.
وسرعان ما فرزت الأرض تحالفاتها، مؤكدة عدم وجود انقسامات خطيرة: ففي الأشرفية، المتن، عاليه، كل الشمال، كل البقاع، وكل الجنوب باستثناء جزين، لا توجد معارك انتخابية تذكر. تقتصر الانتخابات الفعلية على جبيل وكسروان وبعبدا، وحتى هنا احتمالات التفاهم ووضع سقف للتجاذبات الانتخابية ممكن جداً، خصوصاً أن غالبية المرشحين أصدقاء ولا مشاكل شخصية بينهم.
لكن رغم ذلك، واصل «المستشارون»، يتقدمهم رفول، المطالبة بتطيير الانتخابات، وازدادوا إلحاحاً بعد تأكدهم من أن الانتخابات ستفضحهم لعجزهم، رغم النفوذ المطلق المعطى لهم، عن إيصال المرشحين المقربين منهم. فالصورة كما هي اليوم واضحة: لا يزال التيار الوطني الحر ــ من عكار إلى جزين ــ هو التيار الوطني الحر، لا مَوْنة لرجال الأعمال على ناشطيه الأساسيين ولا نفوذ للوزراء والمستشارين وكل الجيل الجديد من المرشحين إلى الانتخابات النيابية. وحصول الانتخابات سيكرس عدة حقائق: في الأشرفية، الكلمة الأساس هي للمرشح إلى الانتخابات النيابية زياد عبس، رغم كل التضييق الذي مورس عليه ومحاولة إبعاده من المشهد العوني عبر عدة رجال أعمال، وعبس ليس في جيب باسيل. في جبيل، الكلمة للنائب سيمون أبي رميا رغم تعالي المقربين من باسيل عن كل خلافاتهم الشخصية واحتشادهم ضمن فريق واحد لمواجهته. في المتن، يعجز كل المناوئين لكنعان من وزراء ونواب حاليين وسابقين ومرشحين إلى الانتخابات النيابية عن تشكيل لائحة جدية أقله. وفي بعبدا لا يمكن «التمريك» على النائب آلان عون. وعليه، بدل أن تكون الانتخابات المناطقية مناسبة لاحترام التوازنات داخل التيار، وفتح صفحة عونية جديدة، هناك من يصرّ على مواصلة الركض إلى الأمام.
قبل ثلاثة أسابيع، عقد اجتماع في الرابية تتويجاً لضغوط رفول من أجل تطيير الانتخابات، لكن تصدي نعيم عون (ابن شقيق الجنرال، ورأس حربة المطالبين بمأسسة التيار ورفع وصاية ذباسيل ورجال الأعمال عنه) لم يسهّل الأمر بالنسبة إلى الجنرال. إلا أن نعيم سافر بعدها أسبوعين إلى كندا والولايات المتحدة، وتبعه عدة نواب عونيين بالسفر إلى عناوين مختلفة، مبقين باسيل ورفول والمستشارين وحدهم في الرابية، الأمر الذي ضاعف من جدية التسريبات عن نية الجنرال إلغاء الانتخابات بحجة تأجيلها لأسباب مختلفة. لم يعد نعيم إلا أول من أمس، قبل يوم واحد من الموعد المفترض لفتح باب الترشح ودعوة الهيئة الناخبة (قبل شهرين من موعد الانتخابات بحسب النظام الداخلي للتيار). لكن قرار التأجيل لم يصدر، وكذلك قرار فتح باب الترشح ودعوة الهيئة الناخبة، في ظل تأكيد المتابعين أن تأجيل دعوة الهيئة الناخبة (وبالتالي الانتخابات) بضعة أيام ممكن جداً، ويبقى أسهل من قرار إلغاء الانتخابات عبر تأجيلها ستة أشهر أو أكثر.
في النتيجة، يثبت رفول وخلفه الوزير باسيل، مرة أخرى، تفضيلهما إلغاء الحياة الحزبية على ظهورهما بمظهر الشركاء في حزب التيار الوطني الحر. وهما يفضّلان الحفاظ على الأوضاع الحالية كما هي، حتى لو ظهرا بمظهر الخائفين من الانتخابات، على إجرائها وتكريس القيادات العونية لنفوذها في المناطق. وعليه ستتأجل الانتخابات علَّ الجنرال ينتخب رئيساً فتفتح أبواب الانتساب مجدداً إلى التيار، ويتنبه باسيل ورفول ورجال الأعمال والمستشارون أكثر هذه المرة ليضمنوا سيطرتهم خدماتياً وسياسياً على التدفق البرتقاليّ الجديد، خصوصاً في جبل لبنان، فتميل الكفة الانتخابية أخيراً لمصلحتهم.