ما إن سقطت مروحية تابعة للنظام السوري في ريف إدلب حتى باشرت آلاف من صفحات «فايسبوك»، أصحابها من معارضي النظام في سورية، تعليقات حول مذهب قائدها الذي أسرته «جبهة النصرة» على ما يبدو.
لم يُصدق كثيرون من هؤلاء أنه حمصي من حي الخالدية على ما كشفت البطاقة التي في حوزته. كتبت ناشطة على صفحتها أن أبناء حي الخالدية لا يمكن أن يكون من بينهم قائد طائرة يقصف أهل إدلب، علماً أن بلدة الرستن التي أنجبت مصطفى طلاس (كان وزيراً للدفاع خلال مجزرة حماة عام 1982) لا تبعد كثيراً عن حي الخالدية الحمصي.
لكن اللافت أكثر في سعي تلك الصفحات لمعرفة مذهب قائد الطائرة، هو ضربها صفحاً عن تعرضه للتعذيب. ونحن هنا لا نتحدث عن سكان مناطق تعرضت للقصف ببراميل النظام فأقدم أهلها على التشفي بطيار أسير، إنما نتحدث عن نخب وعن ناشطين. أصوات قليلة هالها تعذيب قائد الطائرة عقب أسره، أما الآخرون فتركزت تعليقاتهم على ضرورة التحقق من أن بطاقته غير مزورة، وأنه ليس من حي الخالدية، وصولاً إلى دعوات بالإعدام الميداني المسبوق بمزيد من التعذيب.
صحيح أن مساجلة صفحات على «فايسبوك» تنطوي على مقدار من العبث، لكن عشرات من هذه الصفحات تحمل أسماء صريحة لأشخاص معنويين مرتبطين بهيئات محسوبة على المعارضة السورية! وصحيح أيضاً أن مسؤولية النظام في سورية عن بلوغ العنف هذا المستوى من المشاعر المحسومة لا خلاف حوله، لكن مسؤولية النخب السورية عن إقناعنا بأن البديل غير متماه مع عدوه في مستوى العنف أمر محسوم أيضاً. وما جرى مع قائد الطائرة، أسير الحرب، لا يُبشر بأن البديل في منأى عن ثقافة النظام.
ثم إنه وفي العودة إلى الهوية المذهبية لقائد الطائرة، لا بد من التطرق إلى الهوية المذهبية للنظام في سورية. فصحيح أن العصب العلوي للسلطة هناك يطغى على مكوناتها، لكنه عصب سلطة فقط، وهذا لا يعني أنه الهوية المُطلقة للنظام السوري. ونحن هنا لا نتحدث فقط عن شراكة سنّية لا تخطئها عين أقامها النظام مع أركانٍ المدن السنّية، إنما نتحدث أيضاً عن اختيار النظام ثقافة الأكثرية في سعيه للإمساك بسورية. «العلوية» بهذا المعنى كانت جهازاتية فقط، وعصباً قبلياً، أما «السنّية» بالمعنى الثقافي والاجتماعي فهي ما سعى النظام إلى التماهي معه، وحرص على عدم الكسر مع قيمه.
«علويو السلطة» حكموا دمشق، ولكن حين قدِموا إليها، لم يتمكنوا، ولم يسعوا ربما، إلى نقل قيمهم وأذواقهم وأنماط عيشهم إليها، ولا يشبه ذلك ما أقدمت عليه نخب وأقليات كثيرة أتيح لها أن تحكم دولاً وأكثريات. دمشق العميقة كانت أقوى منهم، وكذلك حلب العميقة، وحمص واللاذقية وإن بدرجة أقل.
في لبنان مثلاً، وعلى تفاوت المقارنة واختلاف التجربة، حين كان الموارنة عقل السلطة وركنها، تسربت قيمهم إلى التعليم والاقتصاد وأنماط الأكل والشرب واللهو، واليوم بعد أن تصدر الشيعة الدولة والسلطة، زحفت قيمهم إلى بيروت، وهم إذ استولوا فيها على المشهد العام، لم يعد غريباً أن يستوقف رجلاً من الأشرفية حاجز للجيش اللبناني ويقول له: «هويتك يا حج». الأمر نفسه يصح على أوكرانيا التي حكمتها أقلية روسية في أيام الاتحاد السوفياتي، وعلى كثير من التجارب المشابهة.
في دمشق كان على العلوي، وإن كان من أركان السلطة، أن يصبح دمشقياً، وفي ذروة غطرسة النظام «العلوي» مارست المدينة تعالياً على ريفييها الذين يحكمونها موحية بأن ما هم فيه من سلطة، لا يتعدى وظيفة عابرة أوكلتها هي إليهم بسبب انشغالها بأمور أخرى أهم.
تنطوي هذه الفكرة على مبالغة، ولكنها مبالغة تجد الكثير من القرائن على المغامرة في تبنيها. فحافظ الأسد، مؤسس هذه العلاقة مع دمشق السنّية، كان يدرك أن سلطته لن تستقيم من دون شراكة مع دمشق العميقة، وهذه ليست دمشق الناس والأهل، لا بل إنه استعان بالأولى على إخضاع الثانية. فحين ارتكب المجزرة في حماة مثلاً لجأ إلى دمشق العميقة لمنع دمشق الراهنة من أن تنفذ إضراباً احتجاجياً.
وصحيح أن بشار الأسد أخلّ بهذه المعادلة، وكان ذلك من أسباب التصدع السريع لسلطته، لكن سنوات التأسيس لم تذهب هدراً، فهو اليوم يستعين برصيد والده (السنّي) في حربه على السوريين. ثم إن التباس هوية النظام بين عصبه العلوي وثقافته الأكثروية كان يمكن المعارضة أن تستعين به في نزاعها معه. فالحرمان والفقر الكبير الذي تُكابده أرياف العلويين في سورية، أمر مجمع عليه، وجزء من أسبابه تقديم النظام دمشق، ولاحقاً حلب، على هذه الأرياف في المشاريع التي نفذتها الدولة.
السجال حول مذهب قائد الطائرة كان من المفترض أن يكون سجالاً حول مسؤولية الأكثرية (الأكثرية بالمعنى السياسي والاجتماعي وليس العددي) عن تمكن النظام في سورية من السوريين. وعن التأمل في أسباب احتفاظ بشار الأسد على رغم العنف الهائل الذي مارسه ويُمارسه، بقواعد له في مُدن الأكثرية.
النزول بالنقاش إلى المستوى الذي بلغته صفحات «فايسبوك» سورية في نهار أسر قائد الطائرة، طرد أيضاً حقيقة أخرى تتمثل في خبر ترافق مع خبر سقوط الطائرة، وهو أن «جبهة النصرة» فتحت قناة تفاوض على مصير طيار أسير لديها مع النظام لمبادلته بـ «أبو مصعب السوري»، أي الإرهابي العالمي الذي كان تسلمه النظام من ألمانيا في 2004!
إذا صح ذلك، فإن ظلامة السوريين تكون قد فقدت شاهداً يُمكن أن يقدم كقرينة في أي محكمة دولية من المحتمل أن تؤسس لمحاسبة النظام على براميله، وإذا صح أيضاً فإن «سنّية عميقة» موازية، هي «جبهة النصرة»، لا تقيم وزناً لمأساة «أهل السنّة» وأهل سورية، وتُقدّم عليهم جميعاً أبو مصعب السوري، الإرهابي العالمي الذي سيتكفل بقطيعة جديدة بين العالم والقضية السورية.