من يقرأ مؤلفات المفكر المصري نصر أبو زيد و يواكب طروحاته ، يدرك بلا شك ، أن أمتنا العربية اﻹسلامية هي أمة معطاء بما لا يقاس ، و أن لا خوف عليها ، مهما تزاحمت عليها اﻷزمات و المصائب .
إن اﻷمة التي ترفدنا كل يوم بمفكرين عظام شأن أبي زيد و جورج طرابيشي ، هي أمة خلاقة ، ولادة للفكر بامتياز .
لقد دأبت على تزويدنا بسيل من الجهابذة الذين يعيدون تشكيل وعيها ، و إحيائها من جديد ، حسب مقتضيات الواقع .
هؤلاء هم فقط حماة اﻷمة و حراسها ، و هم فقط الذين يحافظون على حيويتها و يحفظونها من اﻹندثار ، و هم أيضا " من يجبرون كسرها و يقومون اعوجاجها .
إن حياة المفكر نصر أبو زيد تمثل شاهد حي ، و تعكس صورة ناصعة ﻷولئك العظماء الذين آثروا نهضة اﻷمة و قيامتها على حساب مصالحهم الشخصية .
إن الدور الذي لعبه أبو زيد في إعادة بوصلة الفكر الديني إلى اتجاهها الصحيح هو دور إحيائي بكل المقاييس .
لقد أعاد هذا الرجل للعقل اعتباره ، و وضعه موضعه الذي يستحق ، و شيد منظومة فكرية متماسكة البنيان ، تقوم على المنطق ، و تأخذ بنظر اﻹعتبار التطورات الهائلة التي شهدتها البشرية ، ماديا" و معنويا" ، كما تلحظ بقوة ، تغير ظرفي المكان و الزمان و أثر هذا التغير على رؤية الفكر الديني بكل تفرعاته .
لقد رأى أبو زيد أن تغييب العقل في فهم المأثور الديني هو كارثة لها تداعياتها الخطيرة و نتائجها الوخيمة ، إذ كيف لﻷمة أن تنهض من ردتها إذا وقفت عند حدود النص و لم تتعداه ، و كيف لها أن تجدد نفسها إذا آثرت النقل دون العقل ، ﻷنها بذلك تكون قد ضربت ، كل ما يمت إلى المنطق ، عرض الحائط .
إن تقديم العقل على النقل لا يعني ، بالضرورة ، اﻹستغناء عن اﻷخير نهائيا"، و إنما يعني ، بالدرجة اﻷولى ، عقلنة النصوص و غربلتها ، أو تأويلها ، بغية جعلها منسجمة مع المنطق من جهة ، و بهدف موافقتها للواقع الموضوعي من جهة أخرى . إن آلية التجريح و التعديل ، و منهجية تمحيص المأثور الديني ، لا تشكلان حلا" نهائيا" أمام النص الديني المتضخم ، ﻷنهما تخضعان بدورهما لمحاذير و ضوابط ، لا تستطيعان التفلت منها .
من هنا ، يأتي العقل ليشكل الفيصل اﻷساسي الذي يفصل بين الواقع و الخرافة ، بين الحقيقة و الخيال ، بين المنطق و اللامنطق . إن منهجية تحييد العقل و عدم إعمال المنطق العلمي في تناول المأثور الديني هي مؤامرة ظالمة ، ستؤثر نتائجها الكارثية على الدين نفسه ، و سيتحول حينذاك إلى مستودع للخرافات و اﻷساطير .
و على ذلك ، فإن من مصلحة الغيورين على الدين أن يعوا أن لا أمل لاستمرارية دينهم إلا بجعل العقل فاصلا" أساسيا" في كل ما يتعلق بالدين ، مأثورا" و نصا" .
و من المؤسف حقا" ، أن يقوم بعض تجار الدين بمحاكمة أبي زيد ، و المجددين أمثاله ، بتهمة الكفر و اﻹرتداد ، ﻷن ذلك يعني قطع الطريق أمام كل إبداع و اجتهاد .
إن هذه الذهنية المتحجرة ستحول دون تطوير المأثور و تجديده ، و ستؤدي ، بالتالي ، إلى انهيار كامل في عملية اﻹجتهاد التي تعتبر شرطا" أساسيا" لكل تطور و إبداع .
و أخيرا" و ليس آخرا" لقد نسي المتحجرون أن للفكر أجنحة يخترق بها كل الحواجز ، و لقد نسوا ، أو تناسوا ، أن الفكر عصي على القيود و السجون فتحية إلى المفكر نصر حامد أبو زيد ، صاحب الكلمة الحرة و القلم الملتزم و العار كل العار ، ﻷولئك المتوحشين المتسترين بلبوس الدين و التدين .