بدعوة من المعهد البابوي للدراسات الشرقية بـ«الفاتيكان» في روما، وفي ندوة اللقاء الشيعي – الكاثوليكي ضمن مؤتمر”مسؤوليات المؤمنين في عصر العولمة والتعددية ” الذي عقد في 23 آذار 2015، وحضره عدد من المفكرين وكبار الكرادلة المسيحيين ورجال الدين المسلمين، ألقى سماحة العلامة المفكّر الإسلامي السيّد محمد حسن الأمين كلمة في هذه الندوة العالميّة تحت عنوان، «رؤية الدين والدين الإسلامي لسلام العالم» وقد جاء فيها:
في هذه المرحلة الهامة من تاريخ الإنسان على هذه الأرض، يبدو لي أن الكائن الإنساني كان ينبغي أن يكون أكثر تقدماً وسمواً وتحقيقاً لذاته الإنسانية بوصفها كينونة مسكونة.. منذ خلقها الله بقوى وإمكانات لا حدود لتطورها وارتقائها وصولاً إلى هدفها الأسمى وهو خلافة الله تعالى على هذه الأرض.. ونحن إذا تأملنا جيداً لواقع الإنسانية الراهن لوجدنا أن ثمة إنجازات كبيرة تحققت لمسيرة الكائن الإنساني عبر التاريخ وصولاً إلى هذه المرحلة التي نعيشها.. غير أن هذه الإنجازات تبدو أنها منحازة بصورة نسبية ولكنها واضحة لا لبس فيها إلى شكل وحيد من أشكال التطور المنشود، أعني به الشكل الذي يتمثل بالانتصار على الكثير من تحديات الطبيعة الجغرافية والمادية لهذه الأرض، وهذا الانتصار يتمثل في منجزات العلوم الطبيعية، وحتى العلوم الإنسانية، مقترناً مع نقص فادح في نسبة تطور الطبائع البشرية ونسبة سعيها إلى الارتقاء والالتقاء على الغايات السامية التي وجد الإنسان من أجل تحقيقها، والتي تتلخص في تحقيق السلام على هذه الأرض تمهيداً لاستحقاق أرقى من ذلك، وهو الوصول إلى الكينونة الأسمى المتمثلة بهدف الوصول إلى الله تعالى، كما تشير الآية القرآنية في قوله تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}، والملاقاة هنا لا تعني الملاقاة المادية، بل تعني وصول الإنسان إلى التطابق الكامل مع الغايات العليا لخلق هذا الكائن الذي أكسبه الله منذ خلقه امتيازاً على الكثير الكثير من مخلوقاته التي لا حصر لها في هذا الكون، وقد يكون من بينها مخلوقات أخرى في كواكب أخرى غير كوكبنا الأرضي هذا.
أردت في هذه المقدمة أن أدخل إلى موضوع السلام على هذه الأرض، وفي هذا الاجتماع الإنساني الواسع، معلناً أنني لا أميّز بين جميع الأديان لجهة غاياتها العليا المتعلقة بهدف ترسيخ السلام على هذه الأرض، مدعياً أن السلام بين البشر هو المقصد الأعلى من مقاصد العقيدة والشريعة الإسلاميتين، ولكنني أعترف مع هذا الادعاء أن الإسلام التاريخي – وليس إسلام النص الأول وهو القرآن – لم يكن دائماً على وعي كامل لهذا المقصد الأعلى للإسلام، وهو مهمة إرساء السلام على هذه الأرض؛ ففي مراحل عديدة من تاريخنا الإسلامي – كما في التاريخ المسيحي – نشبت صراعات قاسية بين المذاهب والاتجاهات المختلفة في فهم العقيدة والشريعة، فضلاً عن الصراعات بين أتباع الديانات المختلفة.. وهنا فإنني بوصفي عالماً مسلماً أطمح لأن يلعب الدين دوراً مفصلياً في مواجهة الصراع الديني، أتوجه لكل علماء الأديان، مسلمين وغير مسلمين، لا إلى الحوار التقليدي بين علماء هذه الأديان، لأن مثل هذا الحوار، وإن كان له جدوى، ولكنها كانت دائماً محدودة، وغالباً ما يطغى عليها الرغبات المتبادلة في إفحام الآخر أو في مجاملته في أحسن الأحوال.. إنني أتوجه للمؤسسات الدينية والمذهبية إلى جلسات حوار تقوم على مبدأ نقد الذات لا نقد الآخر، لأن في مثل هذا النقد الذاتي الشفاف والعلني للذات، بحضور الآخر، ما يشجع شيئاً فشيئاً على إعادة النظر في مسلّمات مقدسة لكل طرف، هي في حقيقتها ليست مقدسة وليست من جوهر الدين، ولكنها وليدة انغلاق مذهبي وديني رسّخها طبعٌ بشري، وبالأحرى غريزة بشرية غير ذات هدف ديني، بل بدافع السيطرة على الجماعة والحفاظ على ولائها، ويدخل في هذه الأهداف ترسيخ المسائل الخلافية وابتكار تأويلات للنصوص الدينية من شأنها أن تعزز الاختلاف وصولاً إلى العداوة مع المختلف دينياً أو مذهبياً.
هذه الدعوة للنقد الذاتي العلني التي أقترحها، أتوجه بها في الدرحة الأولى إلى علماء المسلمين ونخبهم، وسبب هذا التخصيص أن الإسلام في المرحلة الراهنة يشهد بروز ظاهرة أقلُّ ما يقال فيها أنها تتناقض تناقضاً جوهرياً مع مقاصد الإسلام وشريعته السمحاء.
تلك هي ظاهرة الإرهاب باسم الإسلام نفسه.. وليس أقلُّ التجليات المأساوية لهذه الظاهرة، تلك الصورة البشعة التي يوسم بها الإسلام في نظر كثير من شعوب عالمنا المعاصر.. لكم هي أليمة هذه الصورة المروعة عن دين يقوم في عقيدته وأدبياته كلها على الدعوة إلى السلام والمحبة والتعارف بين بني الإنسان كلهم، على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأديانهم، ويخاطب الناس جميعاً بنص قرآني مقدس: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
إن تحية الإسلام جعلت من السلام رمزاً يتكرر ملايين المرات وأكثر في اليوم الواحد كلما التقى فرد بفرد أو جماعة بجماعة، وهي (السلام عليكم)، والرحمة هي في مطلع كل سورة من سور القرآن الكريم (بسم الله الرحمن الرحيم).
والقرار القرآني بشأن جريمة القتل لا نجد له معادلاً قانونياً فلسفياً في كل الشرائع والأدبيات التي أبدعها الإنسان: {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكانما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}، ولو أردنا أن نستطرد في هذا المجال لتعذر علينا إحصاء الآيات والأحاديث النبوية الممجدة لمبدأ الرحمة ونبذ الظلم والاضطهاد والقسوة.
إن الإسلام لا يضفي أي شرعية على أي مظهر من مظاهر العنف والإرهاب، سواء بين المسلمين أنفسهم أو بين إخوتهم في الإنسانية، لذلك فإن أعلى وأهم واجبات العلماء والنخب الإسلامية تتحدد بنزع الشرعية عن كل أشكال العنف والإرهاب المرتكبة باسم الإسلام.
مجدداً في ختام هذه المداخلة، علينا تنشيط الدعوة إلى المؤتمرات واللقاءات بين علماء الأديان كافة والمسلمين خاصة، بحيث تكون هذه اللقاءات والمؤتمرات ذات موضوع أساسي واحد وهو ممارسة نقد الذات أولاً، ثم الإعلان الشامل عن براءة الدين من كل الجماعات المتطرفة الناشطة في ممارسة أبشع أنواع الجرائم باسم الدين نفسه.
وأخيراً.. فإنني لا أريد أن يتوهم البعض أن حديثي هذا عن الإرهاب باسم الدين هو أن الإرهاب الذي يشهده عالمنا المعاصر هو إرهاب ديني، بل أكاد أقول أن المساحة التي يشغلها الإرهاب الديني ربما كانت أقل المساحات التي يشغلها الإرهاب الدولي وإرهاب الأنظمة السياسية، ولو كان المجال متسعاً لأمكنني أن أقدم رؤية دقيقة وموسّعة أثبت فيها أن الإرهاب الديني نفسه هو في أعنف أسبابه إنما يعود إلى إرهاب أوسع منه وأعمق.. إنه في كثير من أسبابه يعود إلى كل أشكال الظلم والاضطهاد ونزعات السيطرة والهيمنة من قِبَل دول العالم الكبرى تجاه الشعوب الضعيفة من جهة، وإلى اضطهاد الشعوب الضعيفة من قِبَل أنظمتها الديكتاتورية.. ولكنني ما زلت مؤمناً أن تعزيز الروح الدينية السياسية وقيمها العليا سوف تكون مؤثراً فاعلاً في قيام عالم أكثر عدالة ورحمة.
أيها المؤتمرون الأعزاء، إن العدالة والسلام على هذا الكوكب الأرضي لن يكون منحة إلهية مجانية، ولكنها في الوقت نفسه ليست جهداً بشرياً خالصاً، ولكنها ثمرة جدلية لعلاقة الإنسان بالخالق، كما في الآية الكريمة: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.