جاءت الهجمات الجوية الخليجية، والعربية المتحالفة معها، ضد الحوثيين وحليفهم علي عبد الله صالح، مفاجئة، ليس لتوقيتها السابق لاجتماع مجلس جامعة الدول العربية ومجلس الأمن الدولي فحسب، بل وفي أن الأنظمة العربية، والخليجية خصوصاً، اعتادت خوض حروب كلامية وعنتريات لفظية من دون الجرأة على التحرك العسكري. وهذا الحدث المفاجئ ينبغي الوقوف عنده طويلاً، لأن التغير في سلوك الأنظمة الخليجية لا يعبر عن مجرد تغير في أمزجة القادة والحكام، بقدر ما يعبر عن انقلاب ثقافي، له أسبابه ورؤية استراتيجية لها دوافعها.
هناك عاملان حاسمان، ساهم الأول في الانقلاب الثقافي للقيادة الخليجية، ويتمثل في وصول الجيل الشاب من الأمراء إلى مواقع صنع القرار، حيث تدير دول الخليج الست، باستثناء عُمان والكويت، قيادات شابة، مباشرة كما في قطر، أو غير مباشرة، كما في الإمارات والمملكة السعودية، وللشباب حماستهم واندفاعهم وإصرارهم، وتطلعهم إلى تحقيق إنجاز ما، عكس الشيوخ الذين يميلون إلى التروي وامتصاص الصدمات، والرضى بما تم إنجازه. والعامل الأهم هو نجاح إيران في اختراق المجتمعات العربية، والتواصل مع القوى المهمشة، خصوصاً حركات الإسلام السياسي، مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وحركة حماس، والأقليات الشيعية في العراق وسورية ولبنان واليمن ودول الخليج، الأمر الذي مكّنها من تكوين علاقات استراتيجية مع تلك القوى، وعقد تحالفات وجودية مع بعضها، كما الأمر مع حزب الله اللبناني والنظام في سورية، أو تحالفات مصلحية مؤقتة، كما مع "الإخوان" وحركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين.
بيد أن هذه العوامل، على أهميتها، ليست سوى ممهدات لعامل أكثر حسماً، هو خروج اليمن من دائرة النفوذ الخليجي، ودخوله في دائرة النفوذ السياسي الإيراني الذي يعتبر أنظمة الخليج معادية ومتحالفة مع الغرب، من أجل إسقاطه، وإيقاف محاولاته المستمرة لتصدير ما يسميها الثورة الإسلامية إلى دول الخليج والعالم الإسلامي. ويرجع سبب خروج اليمن من دائرة التأثير الخليجي إلى الخلاف الخليجي في الموقف من الثورة الشعبية في اليمن، حيث انحازت قوى خليجية إلى الحركة الشعبية التي مثلت حركة الإخوان المسلمين أبرز قيادتها الفاعلة، بينما وقفت قوى خليجية أخرى مع القيادات التقليدية، المتمثلة في الرئيس علي عبد الله صالح، وجاء اختيار نائب الرئيس، عبد ربه منصور هادي، رئيساً توافقياً بين الأطراف الخليجية، أولاً، واليمنية ثانيا. لكن أصول هادي الجنوبية، وولاء الجيش اليمني للرئيس المخلوع، أضعفا مكانة الرئيس، وقدرته على التأثير، الأمر الذي أحدث فراغاً أمنيا وسياسيا، ملأته حركة أنصار الله الحوثية بسهولة، بالتحالف مع صالح ونجله أحمد، الطامح في الرئاسة خلفا لوالده، في مقابل تمكين حركة الحوثي من الانخراط في الجيش. وبالتالي، إعطاؤها غطاء شرعياً، كما قوات فيلق
بدر التي تكون منها الجيش العراقي بعد الاحتلال الأميركي لبغداد عام 2003، وذلك كله دفع هادي إلى التقارب مع حركة الإخوان المسلمين، ما أربك الموقف الخليجي مجدداً بين مؤيد لهادي ومؤيد لخصومه سراً، وراضيا عنه علنا.
أدى الارتباك الخليجي إلى انكشاف الغطاء الإقليمي المساند للرئيس هادي الذي بات وحيداً، من دون قوات نظامية تدعم شرعيته، وحين حاصرته قوات صالح والحوثيون اضطر إلى تقديم استقالته، والهرب إلى عدن، الخارجة تقليديا عن سلطة جيش صالح والحوثيين. حين أدركت دول الخليج حقيقة ما يحدث، وسقوط اليمن في المحور الإيراني المعادي لدول الخليج، بدأت على عجل تجميع قوات برية على الحدود مع السعودية اليمنية، ونقلت سفاراتها إلى عدن، انتظاراً للحصول على غطاء دولي من مجلس الأمن وجامعة الدول العربية، للضغط على قوات الحوثي وجيش صالح، لكن محاصرة الحوثيين عدن، وقصفهم مقر هادي الذي اضطر مجبراً إلى الخروج من المدينة، جعل الخليجيين أمام خيار الدخول منفردين في حرب مع الحوثيين وجيش صالح، حتى قبل اجتماع مجلس الأمن ومجلس جامعة الدول العربية، بل وحتى قبل اكتمال حشد القوات البرية الخليجية والعربية والباكستانية.
يتضح من تطورات الأحداث أن الحرب ضد الحوثيين لم تكن خياراً خليجياً، بل ضرورة فرضتها المتغيرات المتسارعة، ويتضح أن دول الخليج، وإن كانت متحدة ضد التغول الإيراني في اليمن، أنها لا تمتلك خارطة طريق لحل الأزمة اليمنية، بصورة تامة ونهائية، فهناك تضارب في المقاربات بين من يدعم عودة نظام المخلوع علي عبد الله صالح، ومن يريد تمكين "الإخوان" وحزب الإصلاح، وبين من يريد وجود قيادة يمنية هزيلة، مثل الرئيس هادي، يسهل التعامل معها وتطويعها.
من الجهة الأخرى، يرى الحوثيون أن إزاحتهم السلطة الشرعية في اليمن، وتحالفهم مع جيش صالح والقبائل المنضوية تحت لوائه، فرصة تاريخية، لا لقيادة اليمن فحسب، بل ولفرض شروطهم على دول الخليج المجاورة، خصوصاً السعودية التي يعتبرون مناطقها الجنوبية، مثل نجران وعسير وجازان، امتدادا ديموغرافيا لهم، ومع الدعم اللامحدود من الحليف الإيراني وأذرعه في المنطقة، مثل حزب الله اللبناني والمليشيات العراقية الموالية لإيران، فإن حلم إعادة جازان وعسير ونجران إلى شمال اليمن بات قريب المنال، خصوصاً وأن المواجهة العسكرية عام 2009 بين الحوثيين والقوات السعودية أثبتت تفوقا حوثياً.
أما إيران فتنظر إلى اليمن، في بعده العروبي والجغرافي المهم، وأن السيطرة عليه لا تقل أهمية عن السيطرة على العراق وسورية والبحرين، حيث سيمكنها وصول حلفائها الحوثيين إلى الحكم في اليمن من محاصرة السعودية ودول الخليج، بل واختراقهم في حملات تحريض طائفي للقوى الشيعية المهمشة في الخليج. كما ترى إيران في الحرب الخليجية اليمنية استنزافا هائلاً لقدرات دول الخليج العسكرية والاقتصادية، وبالتالي، إضعافا لأدوارها في سورية والعراق ولبنان. لذلك، هي مستعدة لبذل كل طاقاتها الدبلوماسية والعسكرية والإعلامية، للدفاع عن الحوثيين، ودعم حربهم التي تتمنى أن تكون طويلة مع السعوديين والخليجيين، ولعل نتائج مفاوضات الملف النووي الإيراني ستكون محدداً لخيارات التدخل الإيراني في هذه الحرب، بين دعم حربي فقط، أو عمليات انتقامية داخل حدود دول الخليج، تقوم بها الخلايا الموالية لإيران.
أما سلطنة عمان فقيادتها الأكثر خبرة بين قادة دول المجلس، حيث يتربع السلطان قابوس على عرش الحكم طوال خمسة وأربعين عاما، فليس مستغربا أن ينتهج التروي وعدم الاندفاع في اتخاذ قرارات السلم والحرب في المنطقة. ومن جهة أخرى، اعتمدت عُمان سياسة عدم التدخل في شؤون الآخرين، وهي ترى ما يحدث في اليمن شأناً يمنياً خالصاً، ولا ينبغي لأي طرف، إيرانياً أو خليجياً، التدخل فيه. لذلك، قررت عدم المشاركة في تدخل عسكري ضد أي طرف يمني، لأنها تراه لن يزيد اليمن إلا انقساماً، ويدفع باتجاه حرب أهلية شاملة، ستتحمل تكاليفها دول الخليج وعُمان. بيد أن تأكيد أسعد بن طارق آل سعيد، ممثل السلطان في اجتماع جامعة الدول العربية في شرم الشيخ، أن السلطنة تقف مع كل جهد لإرساء الأمن والاستقرار في اليمن، يفتح الباب أمام تكهنات باحتمال دخول عمان على خط العمل العسكري، إذا ما اقتضت الضرورة، ولعل التغيير في الموقف السياسي والعسكري لعمان ستحدده التطورات، خصوصاً إذا ما تعرضت أيٌّ من دول الخليج إلى عدوان عسكري مباشر.
وقد ذهب محللون إلى أن موقف عمان المحايد مرده علاقاتها الخاصة مع إيران، ورغبتها في استقطاب الاستثمارات الإيرانية، بعد رفع مرتقب للعقوبات الدولية عن طهران، وهذا تحليل بعيد عن المنطق، لأن عُمان لو كانت سياستها موجهة اقتصاديا لما أبقت علاقتها مع نظام السادات حين قاطعه العرب والإيرانيون، ولا على علاقتها بالعراق حين احتل الكويت، على الرغم من مقاطعة العالم بأسره للعراق، ولكانت عمان عضواً في الحلف العسكري لإسقاط القذافي الذي مولته دول خليجية ثرية، كما أن عمان لا يمكن أن تضحي باستثمارات خليجية حقيقية قائمة في عُمان، من أجل استثمارات إيرانية، ما تزال في طور الأحلام. كما أن التبادل التجاري بين عمان وإيران لا يساوي 1% من حجم التبادل التجاري العماني الخليجي، وسوق العمل الخليجي يمثل أحد قنوات تشغيل القوى العاملة العمانية.
يمثل الحياد العماني، في هذه اللحظة، متنفساً دبلوماسيا لدول الخليج، تستطيع منه الاستفادة من التواصل والحوار مع الطرف الآخر، وقد أبدت عُمان استعدادها لوساطة بين الأطراف كافة، وجلي جدا من خارطة توزيع القوى في اليمن والمنطقة أن هذه الحرب لن يتم حسمها عسكرياً على المدى القريب، وأن جهدا دبلوماسيا ينبغي القيام به لحقن الدماء، وإعادة الاستقرار إلى اليمن، وإلى شبه الجزيرة العربية بأكملها، فمن السهل البدء بالحرب. لكن، من الصعوبة الانتصار فيها أو إنهاؤها، من دون وجود طرف محايد يتبنى الإصلاح والحوار بين المتقاتلين، ويفتح طريقاً ثالثا لكل السالكين، حين تعييهم البنادق والمدافع والصواريخ والطائرات من الوصول إلى منصة التتويج بالنصر.