قاتلت الجهادية السنية مع أميركا في أفغانستان ثم ذهبت الى أقصى الطرف الاخر ضدها في جريمة ١١ أيلول ٢٠٠١. الجهادية الشيعية المؤسَسَة مع ولاية الفقيه الإيرانية لم تنجُ هي الاخرى من تقلبات هذه العلاقة. لم يكن صعود الخميني في ايران خالياً من قبول أميركي للتغيير في ايران، قبل ان يصطدم الرجل باميركا سريعاً، لأسباب تعبوية في الداخل الإيراني وحاجات تتصل بترتيب ما بعد الثورة.
ثم تجددت العلاقة الإيرانية الأميركية (والاسرائيلية) السرية في ملف ايران غييت، وصفقة الأسلحة وقطع الغيار الإسرائيلية لإيران، بالتوازي مع اصطدام دموي بين ايران واميركا في بيروت طوال نصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي. وعادت العلاقات بين الطرفين مؤخرا "للازدهار" من بوابة التفاوض الأميركي الإيراني على ملف طهران النووي.
غير انه وطوال هذه الانعطافات، بقي اشهار السلبية حيال أميركا هو القاعدة العامة. اذكر ان واحدا من اهم الباحثين الأميركيين لفتني مرة الى استراتيجية نظام حليف لاميركا كنظام حسني مبارك كان يرعى شريحة عريضة من الانتلجانسيا المصرية المحترفة في إظهار عدائها لاميركا، كوسيلة لتنفيس الاعتراضات الشعبية الداخلية ضده.
الجديد الان هو التنافس السني الشيعي، داخل الاسلام السياسي والجهادي وخارجه، على اشهار التقرب من واشنطن. فبدل ان يتبارى مسلمو العرب وإيران على من يحمل راية مناهضة "أمريكا"، يتبارى الطرفان في تقديم أوراق الاعتماد لواشنطن، ويتنافسان في تظهير القرب منها.
فالشيعية السياسية بقيادة ايران ما عادت تجد غضاضة في الإعلان انها واميركا في خندق واحد. بعض التقارير الواردة من فيينا نقلت عن مصادر في وكالة الطاقة الذرية قولها ان وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف، حين فوتح اميركياً بمسألة التنظيمات المصنفة ارهابية، قال ان هذه التنظيمات تعمل اليوم في خدمة الأهداف الأميركية. بصرف النظر عن دقة التصريح، الا ان الأدلة عليه في الواقع العملي لا تعد ولا تحصى وصولا الى امتداح أميركا اداء المليشيات الشيعية في مكافة الارهاب. اما السنية السياسية فهي في طور الدفاع عن مقامها في سلم الاولويات الأميركية، فيما لا تبدو داعش على رغم فداحة الضربات الاميركية بحقها في لحظة استنفار جدية حيال أميركا، مبقية على اولوية حماية "دولة الخلافة".
تكتفي داعش باستعراضات دموية فجة، كذبح الرهائن، تعوض بها عن الاشتباك الحقيقي مع أميركا، بل ان بعض التنظيمات الجهادية السنية يسعى ويطمح الى تفاهمات مع واشنطن حتى ولو كلفها الامر فضُ ارتباطها بالقاعدة، كما يحصل مع جبهة النصرة. ولا تجد هذه التنظيمات، تماماً كما حصل مع نظيرتها الشيعية سابقا، غضاضة في بناء علاقة "لوجستية" بإسرائيل. ففي مقابل تطبيب جرحى هذه التنظيمات في المستشفيات الإسرائيلية، يذكر من عايشوا حقبة الحروب الشيعية الشيعية في لبنان ان بعض السلاح الذي كان يصل الى حزب الله في مواجهة أمل في حروب اقليم التفاح، جنوب لبنان، كان يمر على ظهور البغال عبر طرق يشرف عليها ويمسك بها جيش لحد!
انه التوازن الجديد الناشئ في المنطقة بين السنة والشيعة والذي ترعى أميركا ولادته، بالصدفة او بالتخطيط لا فرق. فواشنطن تعلم انها بوقوفها حامية للاستابلشمنت السياسي السني لم تدرأ عن نفسها كأس ١١ أيلول، ولا حين ساعدت الأغلبية الشيعية في العراق على إطاحة صدام وتأسيس دولة تملك فيها الارجحية درأت عن نفسها ما يتبجح به الايرانيون من "مقاومة الاحتلال الامريكي".
في الحالتين دفعت الأثمان الغالية، في حين تجد نفسها اليوم امام فرصة ان يتنافس المسلمون عليها بدل ان يتنافسوا على اهراق الدم الأميركي. بل ان ما يمكن تسميتهم "جماعة فيلتمان" (المحور المعادي لإيران)، يغبطون "جماعة كيري" (المحور الإيراني).
هذا التوازن الناشىء يقع في صلب استراتيجية الرئيس الأميركي باراك اوباما في التفاوض مع ايران، الذي كتبنا عنه قبلا بانه عراب الاحتلال الإيراني للمنطقة، بسبب ما ينتج عن أدائه حتى الان من انتشاء إيراني وفائض الرغبة في الاعتداء على المنطقة ودولها.
نجاح هذا التوازن يتوقف على قرار إيراني بالانتقال من الاستثمار في الحروب الأهلية في الإقليم الى ترجمة توازن القوى القائم حالياً في السياسة. فما حققته ايران حتى الان ليس قليلاً، بل هي باتت تملك كل المؤهلات لفرض منطق الثلث المعطل على الحياة السياسية في دول الإقليم. في لبنان وسوريا (ما بعد الاسد)، واليمن والعراق (حيث تملك ثلثي القرار وليس التعطيل فقط).
بمعنى آخر، ان اي تسوية في أية واحدة من أزمات المنطقة الرئيسية لن تنتهي من دون ترجمة التفوق الميليشيوي الإيراني الى مكتسبات سياسية للبيئات التي استتبعتها ايران. وهذه المكتسبات هي مكتسبات في اللعبة التنفيذية داخل النظام. اي ان ايران ستكون قادرة من خلال اعادة هندسة العقود الاجتماعية على منح نفسها نوافذ مهمة ترعى من خلالها مصالحها وأولوياتها بدل رعايتها بالسلاح والاعتداء.
يعتمد ذلك اذا على القرار الإيراني. ويعتمد قبل ذلك على قدرة النظام في ايران على استيعاب الاتفاق مع الشيطان الأكبر، مع ما يعنيه ذلك من تحول ايديولوجي هائل. المنطقة امام قرارات خطيرة.