ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله كلمةً في افتتاح المؤتمر الدّوليّ الَّذي يعقد بعنوان "دور الوسطيَّة في مواجهة الإرهاب وتحقيق الاستقرار والسّلم العالميّ"، والَّذي ينظّمه المنتدى العالميّ للوسطيَّة في العاصمة الأردنيّة عمّان. ومما جاء في كلمته: "في البداية، لا بدَّ من شكر الأخوة الأعزاء في المنتدى العالميّ للوسطيّة، ولا سيّما الأمين العام المهندس، مروان الفاعوري، والأخوة المشاركين في هذا المؤتمر، وكلّ التّقدير للدّور الَّذي يقوم به الأردن بقيادته وشعبه، في سعيه لتعميق خطّ الوسطيّة في مواجهة الإرهاب، آملين أن يوفّق الله هذا المؤتمر للخروج بنتائج كبيرة وعمليَّة على هذا الصّعيد. إنَّ القرآن الكريم عندما يصف المسلمين بأنهم الأمّة الوسط، لا يعني بذلك كونهم في الأساس
كذلك، بل هو يدعوهم ويحفّزهم، ليتخذوا من الوسطيَّة منهجاً ودليلاً لحياتهم، يعيشون به فكرهم وسلوكهم وحركتهم، فالوسطية بما تعني من اعتدال وتوازن، لم تكن أبداً شعاراً مرحلياً رفعه الإسلام ليتميَّز عن غيره من الأديان، بل هو جوهر عقيدته وشريعته ونظمه وأخلاقه.. هو حاضر في ثنايا كلّ ذلك.. فالأمة الوسط التي أرادها الإسلام أن تكون الشّاهدة على كلّ الأمم... والمقياس الذي تقاس به، هي أمة معتدلة في قيمها الماديَّة والروحيَّة، وفي نظرتها إلى الكون والحياة، وفي العقيدة، وفي الأخلاق والعبادة والفكر، وفي العلاقات، وفي كلّ أبعاد الحياة. هي أمة تؤمن بأنَّ الله يريد بعباده اليسر، ولا يريد بهم العسر... وما جعل عليكم في الدين من حرج... أمة تؤمن بأنَّ رسولها يأمرها بالمعروف،
وينهاها عن المنكر، ويحل لها الطيّبات، ويحرِّم عليها الخبائث، ويضع عنها إصرها والأغلال الَّتي كانت عليها... أمة لا تغالي في الحبّ ولا في البغض، ولا في تقييم الأشخاص... عادلة في أحكامها وفي مواقعها، لا تضرب حول نفسها طوقاً من العزلة، ولا تذوب في كيانات الآخرين، بحيث تبدو بلا هوية؛ أمّة تهتم بالفرد دون أن تنسى المجتمع.. أمة يحكم مسارها التوازن في السياسة والاقتصاد والاجتماع وفي الدين، بحيث لا إفراط ولا تفريط، لا غلوّ ولا تقصير. أيها الأحبة: إننا بحاجة إلى أن نستعيد وسطيَّة الإسلام، وهو يمدّ جسور التواصل مع الآخر، ليقول لأهل الكتاب: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً}، وللمشركين: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ
فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}... وهو يمدّ يد البرّ للجميع: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}... وهو لا يقف عند ذلك، بل يحتضن من داخله كلّ هذا التنوّع ويحميه. بهذا، جاءت وثيقة التعايش في المدينة، وكلّ التاريخ الإسلامي، الَّذي لم يفرّط في هذا التنوع... أن نستعيد وسطيَّة الإسلام، عندما يعلن أنَّ دم الإنسان على الإنسان حرام، ما لم يقتل أو يفسد، {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}، فالإنسان دمه محترم، لأنه إنسان. أن نستعيد وسطيَّة الإسلام في اعتبار القاعدة هي السّلام والرفق والرحمة... فيما الاستثناء هو العنف والحرب والقسوة، {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}... أن نستعيد وسطيَّة الإسلام في الحرب،
فالقتال لا يكون إلا لردّ الاعتداء أو لدفع فتنة.. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.. والإسلام حتى وهو يدعو إلى القتال، لا يتركه أسير التشفي والانفعال والعصبية.. ولذلك: "لا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً، ولا تمثلوا". أن نستعيد وسطيَّة الإسلام حين يعلن: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}... فلا ينبغي للمسلم أن يكون سبّاباً أو لعاناً أو فحاشاً بذيء اللسان... أو مثيراً لأحقاد التاريخ وضغائنه.. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. أن نستعيد الوسطيّة في تلقّي الأفكار، فلا تبنى القناعات على أساس الشّبهة والاحتمال والظنّ.. ولا تلقى التهم بالضّلال
والكفر والفسق جزافاً.. إنّ الوسطيّة تقوم على الموضوعيَّة والدَّليل والرجوع إلى المصادر الصَّحيحة والثابتة، وعنوانها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}. {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ}. أن نستعيد الوسطيَّة في تقييم الأشخاص، وفي فهم النّصوص، وفي وعي الأحداث، وفي دراسة التّاريخ... "إياكم إياكم والغلو، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين".. كما قال رسول الله(ص). أن نستعيد الوسطيَّة في الانتماء إلى الإسلام، حيث وسَّع الإسلام دائرة الانتماء إليه، ولم يضيّقها، فاكتفى بأنَّ من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله،
هو مسلم... وحرّم ماله ودمه وعرضه... أن لا نعتبر من خرج عما نسميه ضرورة من ضرورات الدين كافراً، ما لم يكشف عن عدم إيمانه بالله ورسوله... أن نستعيد الوسطيّة في الالتزام بقوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً}. أيها الأحبة: إنَّ القضاء على الإرهاب، لا يتم إلا عندما تستنفر جهود العلماء والمفكرين والواعين في مواجهته... فلن تعالج المشكلة ما لم يستأصل التطرف من العقول ومن النفوس... وما لم نعد النظر في النصوص التي تخالف وسطية الإسلام... لا سبيل لمواجهة الإرهاب بالأمن فقط، بل إنَّ ذلك قد يقويه، لأنّه سيجعله يبدو مظلوماً... ولذلك، أكّدنا ونؤكّد ضرورة وجود استراتيجيّة عربيّة وإسلاميّة في مواجهة هذا الإرهاب، تحدّده وتعرفه، فلا يبقى
ضبابياً، وتعالج الأسس الفكرية والثقافية لمنطلقاته والأسباب السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة لتناميه... إنّنا نرى أنّ كلّ هذا الحشد الكبير لمواجهة الإرهاب، لن يحسم المعركة بالأمن فحسب، فقد جرّب هذا في الماضي، فازداد الإرهاب إرهاباً، بقدر ما نحتاج إلى حشد فكري وتربوي وثقافي واجتماعي وروحي، ومعالجة كل الأسباب... إنَّ المطلوب هو معالجة التوتّر على تنوّعاته، التوتّر المذهبيّ.. التوتّر القوميّ والعرقيّ والدينيّ والسياسيّ وتصحيح العلاقات بين الدول العربية ــ الإسلامية، لأن بقاء كل عناصر التوتر هذه، يستفيد منها التطرّف والإرهاب... إنَّنا لا يمكن أن نواجه هذا الإرهاب الّذي بات يهدد قيمنا ومبادئنا وتاريخنا وحضارتنا بمجتمع مترهل، أو مجتمع يعيش الصراعات، صراعات المحاور والدول والمذاهب والطوائف والأعراق والقوميات... إنَّ علينا أن نلتفت إلى أنَّ التطرف والظلم هنا، هو من يولّد تطرفاً وظلماً وهناك... ويولّد احتقاناً في هذه الساحة، وتوتراً في تلك... فإذا كنا جادين
في مواجهة الإرهاب، فلنعمل على دولة العدالة والمواطنة والحريات... ونعمل على أن نبرّد الساحات، أن نعلّمها كيف تلتقي، وكيف تتعامل عند الخلاف، أن نجعلها تعي ضرورة أن تأخذ بمنهج الإمام عليّ(ع) عندما قال: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين".. وبذلك، نتفرّغ جميعاً لمواجهة إرهاب إن تركناه، فسيكون مشكلة لديننا ولقيمنا ولوحدتنا... ولمستقبلنا ومستقبل أولادنا وللعالم من حولنا... إرهاب يشوّه صورة الإسلام الذي نتمثّله رحمة للعالمين، وأنَّ الأمة الإسلامية هي خير أمة أخرجت للناس... إنَّنا بحاجة إلى كلّ ألوان الوحدة؛ الوحدة الوطنيَّة والعربيَّة والإسلاميَّة، وإلى أن نسعى إلى تكامل عربيّ وإسلاميّ، ولو في الحد الأدنى، لنواجه التّقسيم النفسيّ الَّذي يراد لنا أن نعيشه، بحيث يشعر كلّ دين بعدم قدرته على أن يعيش مع الدين الآخر، ويشعر كل مذهب بأنه لا يستطيع أن يتعايش مع المذهب الآخر أو يلتقي معه، وتشعر كلّ قوميّة وعرق بأنها تحتاج إلى أن تضع حدوداً بينها وبين القوميات والأعراق
الأخرى.. إننا نحتاج إلى أن نقف في مواجهة حرب تستنزف كل مظاهر وجودنا وقيمنا.. إنَّنا أحوج ما نكون في هذه المرحلة إلى استعادة الصّورة الّتي حرص رسول الله على أن يرسمها للمجتمع المسلم، عندما قال: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إن اشتكى منه عضو، تداعت سائر الأعضاء بالسهر والحمى". وقوله سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}"