للاتفاق النووي الذي يصرّ الرئيس باراك أوباما على إبرامه مع إيران، تداعيات سلبية داخل الولايات المتحدة وإيجابية على صعيد العلاقة الروسية مع دول الشرق الأوسط. فالرئيس الأميركي سينقذ نظيره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر البوابة الإيرانية، من مغامراته في الساحة الأوكرانية، وهو سيؤجج صراعاً دستورياً سيعمّق الانقسام في الصفوف الأميركية عشية حملات الانتخابات الرئاسية. إقليمياً، إن الاتفاق النووي والتوافق الأميركي – الإيراني على استبدال المقاطعة بالشراكة، سيحييان روح الإمبراطورية الفارسية لدى حكّام الجمهورية الإسلامية الإيرانية. على نسق تصريحات مستشار رئيس الاعتدال حسن روحاني، علي يونسي، الذي اعتبر أن بغداد هي عاصمة الإمبراطورية. كما سيبعث روح التعالي والتبجّح والمزيد من المغامرة لـ «الحرس الثوري» في الأراضي العربية – كما هو واضح بالترويج علناً لمشاركة قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس»، في معركة تكريت ضد «داعش». تلك المعركة التي يودّ البعض اعتبارها «مقدمة» للمعركة الكبرى في الموصل الآتية قريباً بعنوان الشراكة الأميركية – الإيرانية في الأراضي العراقية قرب تركيا.
جزء من المسؤولين العراقيين يتحدث عن فترة ما بعد «داعش» والانتصار على هذا التنظيم نتيجة المعونة الإيرانية في المعارك، وهو يتصرف وكأن التهادنية الأميركية – الإيرانية باتت المظلة الطبيعية لحماية العراق الجديد في ظلّها. وجزء آخر يحذّر من التمادي الإيراني في العراق، تحت أي تبرير كان، وبالذات في المناطق القريبة من تركيا، لأن التوغل الإيراني في تلك المناطق تعتبره أنقرة تحدياً لأمنها القومي. هناك من يتحدث عن الخسائر الفادحة للميليشيات التي تعمل تحت عنوان «الحشد الشعبي»، ويتحدث أيضاً عن جرائم بشعة لتلك الميليشيات تكاد تقترب من جرائم «داعش» الذي تحاربه، ويحذّر من «تنظيف» طائفي و»تقسيم» الأمر الواقع في العراق ليخدم «الهلال الفارسي». وهناك من يتساءل إن كانت هناك استراتيجية للسُنَّة العرب والأتراك لمواجهة المد الشيعي الفارسي المبارك أميركياً وإسرائيلياً، أو إن كان الخلاف الجذري بين تركيا ومصر حول «الإخوان المسلمين» عرقلة ليس في الإمكان تخطّيها لبناء علاقة سعودية – مصرية – تركية من نوع آخر. فماذا في الأفق؟
أثناء انعقاد «ملتقى السليمانية» الثالث في الجامعة الأميركية العراقية التي أنشأها رئيس حكومة إقليم كردستان سابقاً الدكتور برهم صالح، تحدّث عدد ضخم من كبار المسؤولين العراقيين من مختلف الوزارات والتوجهات، عن حاضر العراق ومستقبله في ظلّ الحرب على «داعش» وفي ظل العلاقة الأميركية – الإيرانية. وساد المداخلات قدر مدهش من الصراحة والمصارحة.
وزير التعليم العالي حسين الشهراستاني، وصف العراق بأنه الخط الأمامي في المواجهة «دفاعاً عن الإنسانية، دفاعاً عن أمن العالم، دفاعاً عن قيم العالم». قال إن «النصر محسوم للعراقيين» في المعارك بفضل «قواتنا وعشائرنا وحشودنا الشعبية والبيشمركة». قال إن الانتصار على «داعش» يتطلب «إلحاق الهزيمة بالفكر التكفيري». ولم يكن وحده الذي تحدّث في هذا الاتجاه.
نائب رئيس مجلس النواب الشيخ همام الحمودي، اعتبر أن الخطر الحالي يضع إزالة «داعش» أولاً في الصدارة كضرورة ملحّة. قال إن إزالة «داعش» تشكّل حاجة ماسة الى بناء «الثقة المتبادلة»، وإن «داعش» ليس تنظيمين في العراق وسورية وإنما هو «واحد». رأيه هو أن حجم الخطورة يتطلّب التحرك الفوري ضد «داعش»، وليس الخوض في التفاوض والتفكير «بماذا بعد داعش الآن». وما يقدّمه للذين يعتقدون بضرورة التفاهم على تقاسم السلطات الآن – هو الطمأنة لهم على أعلى المستويات من القيادات الشيعية الروحية في العراق.
نائب رئيس جمهورية العراق أسامة النجيفي، وهو ابن الموصل، قال إن «إهمال الجانب السنّي لن ينهي المعركة» مع «داعش»، بل «سيعطيها المبرّر للاستمرار». اعتبر تشكيل الحكومة الجديدة «فرصة» يجب عدم تفويتها لبناء البيت العراقي. وحذّر النجيفي من أن بناء قوة شيعية – بأكثر من 100 ألف – أكبر من الجيش العراقي»، أمر يثير القلق و «يجب أن يُضبَط». دعا الى بناء قوى عسكرية «متوازنة لكل العراقيين»، وقال إنه لا بد من قرار من المرجعية الدينية «المؤثرة في هذه المجموعات» التابعة لـ «الحشد الشعبي»، وإن على المرجعيات السنّية الدينية التصدّي «للفكر المنحرف» الذي يتبناه «داعش» من أجل «تدميره».
رئيس مجلس النواب العراقي، سليم الجبوري، حضّ على التفكير في مرحلة ما بعد «داعش»، من منطلق «الأرض ما بعد المعركة» والتي يتم تحريرها. قال إن المناطق التي سُمِحَ فيها حمل السلاح على أيدي «الحشد الشعبي»، قد تكون أكثر عرضة لنتائج حمل السلاح. وحذّر الجبوري علناً من أن العراق «الى التقسيم» إذا لم يتم الاتفاق على كيفية وضع السلاح تحت سلطة الدولة لاحقاً، وإذا لم تتوافر الظروف العراقية والإقليمية للتوصّل الآن الى تفاهمات.
هذه خلافات جذرية بين القيادات العراقية في الحكومة والبرلمان، ولها تأثير حتماً في المعركة ضد «داعش»، بالذات في الموصل والأنبار. والخلافات تشتدّ أكثر عند الحديث العراقي حول الدور الإيراني في هذه المعركة.
فمستشار الأمن القومي، فالح فياض، مثلاً، قال: «بصراحة، سنطلب الدعم من إيران ومن الولايات المتحدة»، والاعتماد على أنفسنا أولاً هو عبر «الحشد الشعبي». قال «نعم» لدور إيران العسكري، و «المستشارون العسكريون الإيرانيون موجودون» في العراق ولهم الفضل بعدما «تأخر المجتمع الدولي في نجدة العراق» والذي «له ثمن». وأكد فيّاض، «أننا سنشكر إيران والولايات المتحدة» على رغم «الحساسية» التي تثيرها إيران في «المحيط الإقليمي الذي لم يهضم» دورها في العراق.
كلام مستشار الأمن القومي واجهه كلام نائب رئيس الجمهورية، إذ قال النجيفي إن «إيران استعملت الفراغ لمصلحتها، لكن غياب العرب أثّر في اللاتوازن» الذي يهدّد العراق.
هذه الانقسامات حادة وحقيقية في تقويم المعركة ضد «داعش» ومستقبل إيران في العراق، لا سيما في ظلّ التهادنية والشراكة الآتية الى العلاقة الأميركية – الإيرانية.
الجنرال الأميركي ديفيد بيتريوس المعروف بإنجاح فكرة «الصحوات» عند العشائر السنّية لإلحاق الهزيمة بـ «القاعدة»، عبّر عن قلقه من سيطرة الميليشيات على الأراضي التي يتمّ تحريرها من «داعش»، داعياً الى ضرورة إدخالها في القوات العراقية المسلّحة. دعا الى التفكير بنوعية القوى العسكرية التي ستسيطر على الشوارع في الموصل بعد هزيمة «داعش» فيها، وقال إن «لا عجلة الى الموصل» بعد تكريت، و «المفتاح هو مَن سيسيطر على المدينة»؟
اللافت لم يكن في ما قاله بيتريوس حول الدور الأميركي العسكري الفاعل «وراء الكواليس بأكبر مما تدرك الناس». اللافت هو ما قاله حول المدى البعيد للرعاية الشيعية لـ «الحشد الشعبي»، إذ قال إن «الحشد الشعبي» قد يهدّد العراق على المدى البعيد»، وإن ظهور قاسم سليماني علناً «قد يرتدّ على إيران» لأنه يفعل ذلك في المثلث السنّي.
إنما هناك من نظر الى الأمر من زاوية المفاوضات الإيرانية مع الولايات المتحدة، واعتزام طهران إبلاغ كل من يعنيه الأمر أن الصفقة لا تتضمّن تنازلات عن الطموحات الإقليمية وتوسيع النفوذ الإيراني، وأن طهران إذا وافقت على «تأجيل» تصنيع القدرة النووية العسكرية، فإنها في حاجة الى تعزيز «آني» لتوسّعها إقليمياً للتعويض ولإبلاغ الشعب الإيراني أن النظام قوي وسيزداد قوة بموجب الصفقة.
ووفق عراقيين مطّلعين على خفايا العراق، فإن تكاليف حرب إيران في سورية سدّدتها الخزينة العراقية التي باتت اليوم مفرغة أكثر مما كانت عليه في عهد رئيس الحكومة السابق نوري المالكي. وعليه، إن جفاف الخزينة العراقية يجعل طهران في أشدّ الحاجة الى الصفقة النووية لأنها تمكّنها من المضي في حروب سورية واليمن الضروريين للاستراتيجية الإيرانية من أجل الإطلالة على البحر المتوسط والسيطرة على باب المندب، والتموضع على الحدود السعودية – اليمنية.
إنما هذا لا يعني أن إيران ستكون منتصرة على المدى البعيد. فالتحديات داخل العراق جدّية، وجزء من العراقيين ناقم على طهران. وإذا كان تقسيم العراق السبيل الى ارتياح إيران وحمايتها من النقمة والانتقام، ستقع «الإمبراطورية» الإيرانية لاحقاً وعلى المدى البعيد في أحضان النقمة والانتقام بأبعد وأوسع من العراق بـ «داعشية» أخرى.
فإيران المستفيدة اليوم قد تكون المتورّطة غداً وسط عداء لها، لا سيما إذا نفّذت استراتيجية تقسيم الدول العربية ليتاح لها بناء «الهلال الفارسي». أما اليوم، فإن الرئيس باراك أوباما قرّر أن الحليف الطبيعي للولايات المتحدة هو إيران. وللتذكير، فذلك القرار سبق أن اتخذه «المحافظون الجدد» الذين سيطروا على إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش، فما بدأه بوش في حرب العراق، يستكمله أوباما في الصفقة مع إيران.
اليوم، ليس هناك أي دليل على استراتيجية مدروسة بعيدة المدى للقيادات العربية ولا للقيادات السنّية في دول عربية وتركيا وباكستان. أما الاستراتيجية السياسية والأمنية في وجه الصفقة الأميركية – الإيرانية – وفي مواجهة الامتداد الإيراني إقليمياً، فإنها غائبة على المدى البعيد والآني على السواء.